إذا كانت جرائم حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة المتواصلة منذ ستة أشهر تثير قشعريرة العالم بأسره، نظراً لما تظهره من توحش لدى بعض البشر الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، فإن جرائم الحرب الإسرائيلية، لم تبدأ منذ الثامن من أكتوبر العام الماضي، ولن تنتهي بما يحدث في قطاع غزة، على أي حال من الأحوال، وجريمة حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، ما هي إلا آخر فصل من فصول جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني المستمرة والمتواصلة منذ حتى ما قبل العام 1948، وخلاله وبعده ارتكبت إسرائيل المئات من جرائم الحرب، بما يؤكد أن إسرائيل كدولة، قد نشأت في ظل ظروف الحروب العالمية، وقامت على أساس بقاء الصراع الكوني، وكجزء منه، لذا فهي أي إسرائيل، بحاجة ماسة إلى تغيير أسس إقامتها، وأول تلك الأسس، هو إنهاء احتلالها لأرض دولة فلسطين، كمقدمة لإقامة تلك الدولة.
ورغم أن إسرائيل بغالبية شعبها اليمينية الحاكمة منذ ثلاثة عقود، هي من قامت بالدفع إلى وقوع الانقسام الداخلي الفلسطيني، بهدف قطع طريق أوسلو على إقامة الدولة الفلسطينية، وبذلك فإن بنيامين نتنياهو شخصياً يتحمل مسؤولية أساسية في إقامة حكم حماس في قطاع غزة، وبذلك فإن منجز نتنياهو الأساسي يتمثل في شق الصف الفلسطيني وإحداث الانقسام داخله، وهكذا فإن إسرائيل فيما بعد واجهت ما كانت أميركا قد واجهته في أفغانستان، حين غيرت القاعدة بوصلة وجهتها، بعد طرد السوفييت من بلادها، لذا فإن نتنياهو يسعى إلى أن ينهي مشروعه، بالنتيجة المثلى، وهي أن يغلق تلك البوابة التي فتحها أرئيل شارون، بانسحابه من جانب واحد من قطاع غزة، وإن كان دافع شارون أيضاً قطع الطريق على الدولة الفلسطينية الموحدة، أو منع أن تكون أرض الضفة الفلسطينية والقدس موضوع تلك الدولة، أو حتى جزءا منها، لذا فقد ترافقت حقبة شارون مع مقترحات غيورا ايلاند، القائلة بدولة في قطاع غزة، مع تبادل أراضٍ، أو تلك الاقتراحات دون التفاصيل والتي كان جوهرها حلاً في الضفة مختلفاً عن الحل في غزة.
ولعل هذا ما يفسر رد فعل نتنياهو حين طالبته واشنطن منذ بداية الحرب بالحديث عن اليوم التالي لإخراج حماس من غزة، وكاد يطير صوابه حين قالت واشنطن بعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، حتى ولو بصورة معدلة، فالقصة عند نتنياهو هي نفي الآخر، وهي التخلص من كل الفلسطينيين، ولا فرق هنا بين متشدد ومعتدل، بين حماس وفتح، أو حتى بين فلسطينيي الضفة أو القطاع، أو حتى من يعيشون كمواطنين داخل دولة إسرائيل، وهو بالتأكيد أكثر عنصرية من غولدا مائير ومن موشي دايان، حين كانا يقولان إن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، لا المعتدل ولا المتشدد، لا الوطني ولا الإسلامي، وهكذا فإن واشنطن وبعض أصدقاء إسرائيل هم الذين ما زالوا يعتقدون عكس الواقع وعكس الحقيقة، التي تقول إن هناك مشكلة بنيوية داخل إسرائيل، نشأت مع ظروف وطبيعة نشأتها، لذا فإنه لا الحلول الأمنية، ولا الحلول السياسية المؤقتة أو المستندة لاعتبارات انتخابية، إن كان في أميركا أو في إسرائيل، يمكنها أن تضع حداً لصراع سيظل قائماً ومشتعلاً، ما لم يتم الإقرار بجذر المشكلة.
فاليمين الإسرائيلي والتطرف والعنصرية، وصولا لإرهاب الدولة، لم يهبط من السماء، ولم يتم استيراده من الخارج، بل إن اليمين والتطرف تولى الحكم في إسرائيل منذ نحو خمسين عاماً، وفي ظل توقف الحروب العربية مع إسرائيل، أي ما بعد حرب أكتوبر العام 1973، وهي آخر الحروب العربية (مصر وسورية) مع إسرائيل، ومنذ ذلك الوقت، واليمين يحكم إسرائيل بشكل متواصل، وفي نفس الوقت يتحول من يمين الوسط، إلى يمين اليمين ثم إلى اليمين المتطرف، والاستثناء الذي يؤكد القاعدة كان العام 1992، كان حين تشكلت حكومة يسار، وكانت حركة ميرتس فعالة فيها مع حزب العمل، وبشبكة أمان عربية مكونة من خمسة أعضاء كنيست، مع 12 نائباً عن ميرتس و 44 نائباً لحزب العمل، وقد حدث ذلك التحول الداخلي بفعل الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وذهبت تلك الحكومة لتوقيع اتفاق أوسلو، بما دفع اليمين لاغتيال رئيسها إسحق رابين، وقطع الطريق على الحل السياسي الذي يتضمن إقامة دولة فلسطينية.
وإذا كان الأميركيون خاصة، وهم يشاركون مجرمي الحرب الإسرائيليين، ارتكاب جريمة حرب الإبادة في قطاع غزة، قد أوهموا أنفسهم، في الوقت الذي حاولوا فيه خداع العالم بالقول بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وذلك كرد فعل على عملية حماس يوم السابع من أكتوبر الماضي، فإنهم لم يفكروا في إجراء الحوار مع أنفسهم، والإجابة عن السؤال، إن كان حق الدفاع عن النفس يعني الهجوم على أراضي الغير فضلاً عن قتل المدنيين، وشن حرب الإبادة مكتملة الأركان، بتجويع المدنيين وقطع الماء والكهرباء والدواء عنهم، وقصف المدارس والمستشفيات وأماكن لجوء المدنيين، كذلك لم يتساءلوا عن الحصار الذي فرضته إسرائيل منذ 17 عاماً على قطاع غزة، والأهم هو هل من حق الاحتلال أن يدافع عن احتلال غير شرعي وفق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وهل يحق للاحتلال أن يقتل مقاوميه، وحتى نسهل الحوار عليهم أكثر نقول: دعونا من قصة غزة وإن كان الهجوم الإسرائيلي على القطاع، المتواصل منذ ستة شهور، وخارج حدود إسرائيل، يعتبر دفاعاً عن النفس أم لا، ماذا عما تفعله إسرائيل بجيشها ومستعربيها ومستوطنيها في الضفة والقدس وبشكل متوصل من اغتيالات واجتياحات مستمرة وبشكل يومي منذ عامين، أي منذ إطلاق عملية "كاسر الأمواج" ؟
وقد قتلت إسرائيل نحو خمسمائة فلسطيني في الضفة الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر، واعتقلت أكثر من سبعة آلاف مواطن، وجرحت المئات، كما قامت بهدم نحو 270 منزلاً، وارتكبت مجازر بحق العديد من القرى والمدن، مثل حوارة وجنين ونابلس، أي أن إسرائيل ليست بحاجة إلى "مبرر" لتواصل جرائم الحرب الناجمة عن احتلالها لأرض وشعب آخر، وإصرارها على الاحتفاظ بذلك الاحتلال، وعدم إنهائه، وقد اضطر الإسرائيليون إلى الإفصاح عن نواياهم الاحتلالية هذه بسبب ما حدث بعد السابع من أكتوبر، ومن يتابع تصريحات ومواقف رئيس الحكومة وأعضائها، يتذكر على الفور مواقف وتصريحات الفاشيين على مر العصور، والغريب أن من يطلقون دعوات إنكار وجود الشعب الفلسطيني، فضلاً عن حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته، بل ومن يطلقون دعوات إبادته باستخدام القنابل النووية التي تمتلكها إسرائيل هم أعضاء الحكومة ونوابها، أي المسؤولون في إسرائيل وليس أطراف المعارضة، بما يعني أن تلك المواقف بمجموعها تشكل السياسة الرسمية الإسرائيلية، والقابلة للتنفيذ لكونها لا تأتي كدعاية انتخابية.
هكذا فإن "المعارضة" الأميركية لحرب الإبادة الإسرائيلية، وهي تبتعد عن جوهر الصراع، ولا تلتقط جذر العنف الإسرائيلي وقابلية إسرائيل لارتكاب جرائم الحرب وحرب الإبادة بشكل رسمي، لن تكون كافية "لتحرير" إسرائيل مما رافق ظروف نشأتها من عداء للإنسانية، والإسرائيليون بأغلبيتهم لا يكنون الكراهية للفلسطينيين - كل الفلسطينيين - فقط، بل هم كذلك تجاه معظم العرب والمسلمين، وهذا ما يفسر حروبهم مع العرب أولاً، ثم مع العرب والمسلمين اليوم، والسؤال الذي لا بد من طرحه، وذلك حين يصف يسرائيل كاتس وهو وزير خارجية إسرائيل الذي يفترض فيه أن يتحلى بالدبلوماسية، الأمم المتحدة، التي تمثل البشر جميعاً، بأنها معادية للسامية، هو هل حقاً أقام الغرب دولة إسرائيل على أرض فلسطين لحل المسألة اليهودية ؟ أم أنه أقامها كقاعدة عسكرية للسيطرة على الشرق الأوسط، ولتكون بيدقاً متقدماً في مواجهة المعسكر الآخر في الحرب الباردة ؟
فأن تكون إسرائيل دولة يعيش فيها اليهود كملجأ من معادي السامية في الغرب، وكملجأ من المحرقة، يعني أن تكون دولة مدنية تقدم نموذجاً في التعايش بين مواطنيها ومع شعوب ودول الجوار في الشرق الأوسط، أما أن تظل إسرائيل دولة احتلال لأرض وشعب آخر، ودولة من حقها التفوق العسكري على كل دول وشعوب الشرق الأوسط، ثم أن تقيم المناطق الأمنية على أرض الغير وليس داخل حدودها، وأن تطالب بترتيب كل الشرق الأوسط بناء على هواجسها الأمينة، فلا يعني سوى أنها قاعدة عسكرية من مخلفات الاستعمار، كل شعوب المنطقة ضحيتها بمن فيهم معظم مواطنيها اليهود وغير اليهود، والحل هو في إجراء تحول جذري داخلي، يبدأ بإنهاء احتلالها، وتحديد حدودها وفرض مناهج تعليم عليها، تساوي بين حياة الأفراد والبشر من اليهود وغير اليهود، حتى تتحول إسرائيل لدولة مدنية تعيش في سلام مع الجوار.