للإجابة عن هذا السؤال نحتاج إلى التفكير العميق بالأسباب التي جعلت إسرائيل تذهب للتصعيد إلى درجة توجيه ضربة موجعة بالقدر الذي انطوى عليه تدمير القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية، واغتيال عدّة قادة من "فيلق القدس" في مقر دبلوماسي من المفترض أنّه خارج قواعد الاشتباك، وأنّ له من الرمزية السيادية ما يجعل عدم الردّ عليه بمثابة تراجع كبير يصعب تبريره في ظروف الاشتباك بين إيران من خلال حلفائها أو أذرعها، وبين إسرائيل في حرب ما زالت تدور بكل قوة وعنف في قطاع غزة، هذا إضافةً إلى ما يدور من هذه الحرب في الضفة الغربية، وما تتعرض له سورية من اعتداءات تحوّلت في الواقع إلى هجمات يومية أو شبه يومية.
هل أنّ إسرائيل اعتبرت أنّ قادة "فيلق القدس" الذين كانوا يتواجدون في القنصلية نوعاً من "الصيد الثمين" الذي سيجد صداه الإيجابي في المعادلة الداخلية الإسرائيلية، وبالتالي يستحقّ "المغامرة" أو ربما المجازفة التي ستمرّ دون تبعات كبيرة، أم أن إسرائيل لم تعد ترى أصلاً أنّ ظروف الحرب الدائرة من حيث ما تنطوي عليه من أهمية وأخطار وتبعات قد تجاوزت لعبة قواعد الاشتباك، وأنّ "مراعاة" مثل هذه القواعد لم تعد لها هذه "الحساسية"، ولم تعد لها "ضرورة"؟
كلّ هذا وارد، ومن المؤكّد أنّه قد أُخذ في الحسبان الإسرائيلي، لكن السبب الحقيقي، والذي لا يمكن أن يكون معلناً، ولا يمكن الإفصاح عنه، أو حتى الإشارة إليه هو رغبة إسرائيل "باستقدام" ردّ إيراني يمكّنها من الانتقال عند درجة معيّنة من الحرب "المحلّية" من وجهة النظر الإسرائيلية إلى الحرب الأوسع، وستسمّى إقليمية، بمشاركة معيّنة من "الغرب" لعدة أيام أو أسابيع، ليأتي العالم بعد هذه "الحرب" الخطرة على كلّ الإقليم، وعلى العالم كلّه لوقفها بأسرع ما يمكن، وليصار فيما بعد ذلك مباشرة إلى ترتيب، أو إعادة ترتيب الإقليم بما يخفي ويغطي على الفشل الإستراتيجي الذي مُنيت به إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية و"الغرب" كلّه.
ورغم أنّ المراهنة على توسيع الحرب "تكتيكياً" يمكن أن ينطوي على مخاطر أكبر بكثير من المخاطر التي ترتّبت على الفشل الحالي لإسرائيل، ورغم أنّ درجة المغامرة يمكن أن تصل إلى حواف المقامرة، إلّا أنّ قيادة الحرب الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، خصوصاً المشاركة في "الائتلاف الحاكم"، تفضّل الذهاب إلى هناك على أن تنتظر مصيرها المحتوم إذا بقيت الحرب على قطاع غزة تدور في الدائرة المفرغة التي وصلت إليها.
واضح الآن أنّ أميركا نصحت بالعمليات الجراحية، ولما أطلق عليه بعض القيادات العسكرية بالمرحلة الثالثة، والذي تعني "انتهاء" العمليات البرّية واقتصار الهجمات البرّية على أهدافٍ منتقاة محدودة بدقّة، وبالاستناد إلى معلومات استخبارية.
صحيح أنّ إسرائيل لن تنضبط لمعايير حقيقية سواء على مستوى تحديد الأهداف أو على مستوى أساليب التنفيذ، إلّا أنّ الانطلاق الجنوني الذي ساد حتى الآن في تعاملها مع تلك الأهداف، وفي تعاملها مع درجة التدمير والإبادة التي لجأت إليها، لن يكون متاحاً كما كان حتى الآن.
تقلّصت القوات الإسرائيلية في القطاع، ولم تعد القوات التي ما زالت موجودة هناك قادرة على عمليات برّية كبيرة، ولم يعد "الدفاع" عن هذه القوات سهلاً على الإطلاق، وبالتالي فقد تغيّر على ما يبدو دورها بصورة جذرية بالمقارنة بما كان عليه الأمر في بداية الحملة البرّية، وبما كان عليه حتى الأسابيع الأخيرة.
ومن الناحية العملية، لا يمكن تصوّر أنّ هذه القوات العاملة الآن في القطاع هي التي ستتولّى مهمّة الاجتياح البرّي لـ"محور فيلادلفيا" وما كانت تقوله القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
إذا كانت القوات الإسرائيلية العاملة في القطاع آخذة في الانسحاب التدريجي من القطاع، فإنّ هذا الأمر يشي بأنّ ثمة حاجة ماسّة لها على جبهات أخرى في ظل الحديث عن أزمات جديدة تعاني منها هذه القوات على مستوى الأعداد المطلوبة لاستكمال القتال على جبهات أخرى إذا تطلّبت ظروف الحرب ذلك كلّه.
لم يستطع أحد أن يُثبت حتى الآن أنّ "الانسحاب" الذي يتمّ للقوات الإسرائيلية يأتي في ظلّ إنجازات عسكرية حقيقية، ولم يصدق أحد أنّ هذه القوات قد فرضت سيطرةً حقيقيةً على المناطق التي دخلتها حتى الآن؛ فقد تبيّن أنّ عودة مقاتلي المقاومة الفلسطينية إلى المناطق التي ادّعت دولة الاحتلال أنّها باتت آمنة على قواتها ليست سوى مسألة وقت، ووقت قصير للغاية، ما يدلّ على أنّ بنية المقاومة ما زالت تعمل بصورة متماسكة نسبياً، وما زالت هذه البنية عصيّة على الكسر على ما تبدو عليه الأمور، وما زالت قادرة على الانتقال المباشر لتنظيم هجمات في كلّ مناطق القطاع.
وعلى ما يبدو، فإنّ حكومة الاحتلال في ظلّ ما تعيشه من أزمات متلاحقة، وفي ظلّ تفاقم الأوضاع في الشارع الإسرائيلي، وفشلها في إعادة لملمة المجتمع الإسرائيلي حول خيار الحرب بأيّ ثمن، والإخفاق الكبير بتحقيق أهداف الحرب المعلنة، خصوصاً إعادة الأسرى الإسرائيليين، أصبحت أمام خيارات صعبة، وهي لم تحدّد وجهتها الأخيرة بعد.
القيادة الإسرائيلية التي فشلت حتى الآن في كلّ شيء تقريباً، ولم تسجّل لها سوى قتل المدنيين الفلسطينيين وتشريدهم، وتدمير منازلهم والقضاء على كافّة مناحي الحياة لديهم، لم تجلب لنفسها جرّاء ذلك كله إلّا العار والخزي والعزلة، بحيث أصبحت اليوم دولة منبوذة ومحاصرة من قطاعات واسعة من شعوب الأرض ومن كثير من بلدانها، وانكشفت أمام العالم كدولة همجية ومتوحّشة وإجرامية. على ما يبدو، فإنّ هذه القيادة تُفاضل ما بين توسيع الحرب وما بين الرضوخ لصفقة تبادل أسرى ستكون بمثابة هزيمة وفضيحة سياسية لهذه القيادة.
صحيح أنّ توسيع الحرب حتى كحربٍ "تحريكيّة" هو الخيار الأفضل لهذه القيادة، إلّا أنّ العامل الحاسم في خيار كهذا هو موقف "الغرب"، وموقف أميركا تحديداً من مثل هذا التوسيع.
وفي الواقع، فإنّ مثل هذا الخيار في ظلّ المعارضة، والرفض "الغربي" له سيتحوّل إلى توريط معلن لهذا "الغرب" في مثل هذا الخيار.
يستحيل على "الغرب" قبول فكرة توسيع الحرب، حتى لو كان هذا الخيار يتعلّق بإيران، وهو لن يوافق عليها لأن توسيعها في ظل اقتراب موعد بدء الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة، وتراجع كل القوى الرسمية الحاكمة في أوروبا، وتزايد الاحتجاجات ضدّ كافّة النُّخب التي شاركت في هذه الحرب، وغطّت على الجرائم الإسرائيلية التي ارتكبت فيها، سيعني الجنون السياسي بحدّ ذاته.
على العكس من ذلك كلّه، فإنّ "الغرب" بات يطالب بصورة أكثر إلحاحاً من أيّ وقتٍ مضى بإنهاء الحرب، وعقد صفقة للتبادل كمرحلة أولى لوقف إطلاق النار ستفضي إلى هذا الإنهاء.
ما أظنّه أنّ القيادة الإسرائيلية قد قامت بضرب القنصلية الإيرانية من أجل أن تردّ إيران، ولكي تردّ إسرائيل على الردّ الإيراني، فتعاود إيرانّ الردّ على الردّ الإسرائيلي، خصوصاً أنّ الردود الإسرائيلية على الردود الإيرانية ستشمل ضرب أهداف لـ"حزب الله" اللبناني وأهداف في سورية؛ تحت ذريعة أنّ هذه الأهداف هي مجرّد واجهات لتمركزات إيرانية "تهدّد" الأمن الإسرائيلي، ما يجعل التدحرج في سياق هذه العمليات من ضمن أعلى الاحتمالات وأكثرها ترجيحاً.
كما قلنا أكثر من مرّة: إنّ تدحرج المعارك وتحوّلها إلى حروب طاحنة لا يتمّ على مقياس القلم والمسطرة، والمعارك في ظلّ كلّ ما تنطوي عليه من تداخلات وتقاطعات لا تحتاج إلى ميزان الذهب لكي يتمّ الانزلاق فيها نحو ما أكبر وأخطر وأبعد من مجرّد عمليات تحت السيطرة.
بدأنا نشتمّ لهجةً جديدة في وسائل الإعلام الإسرائيلية بأنّ ثمة حاجة ماسّة للاعتراف بالواقع، ومغادرة المساحة الواسعة التي يغطّيها خطاب المكابرة والعنجهية والشعاراتية الفارغة، وبدأنا نشعر أنّ "الغرب" قد ضاق ذرعاً بكلّ هذا الاستهتار الإسرائيلي بمصالح أقرب المقرّبين منه وعليه، وبدأنا نشعر أنّ ساعة الحسم للتخلّي عن هذا الخطاب كلّه باتت على الأبواب، ما يضيّق الهوامش الزمنية أمام هذه القيادة، ونحن الآن في صُلب أصعب الأيام وأصعب اللحظات؛ لأنها ستكون حاسمة، خصوصاً لجهة نجاح بنيامين نتنياهو أو فشله في توريط إسرائيل، وتوريط الإقليم و"الغرب" في حربٍ ليس من السهل السيطرة عليها. لو كنتُ مكان الإيرانيين لما تعجّلت الردّ، ولما اعتبرت أنّ سرعته هي المسألة الأهمّ.