لا أبالغ في القول إن حرب الإبادة الجماعية التي دخلت شهرها السابع أمام نقطة تحوّل ستدخل بعدها مرحلة جديدة، فإما أن تقف الحرب، أو تستمر بوتيرتها الحالية، أو تنخفض، أو تتصاعد، وربما تفتح الطريق أمام حرب إقليمية.
وحتى نحلل السيناريوهات المختلفة المذكورة، وأيها الأكثر احتمالًا، لا بد من ملاحظة المسائل الآتية:
أولًا: عدم تحقيق حكومة نتنياهو أهدافها المعلنة
إن حكومة بنيامين نتنياهو وعلى الرغم من حجم قوة النيران التي استخدمتها، والكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي سببتها، والدمار الهائل الذي أحدثته؛ لم تحقق أهدافها المعلنة، بل أعلنت عن سحب معظم قواتها من قطاع غزة باستثناء فرقة "ناحال"، وهذا في وقت تشهد المفاوضات حول الهدنة وتبادل الأسرى جولة في القاهرة وصفت بالحاسمة، وهو يتناقض مع ما أعلنته حكومة اليمين وأكده باستمرار كل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ويوآف غالانت، وزير الحرب، وهرتسي هليفي، رئيس أركان جيش الاحتلال، بأن الضغط العسكري هو الذي سيحقق النصر المطلق، وسيؤدي إلى إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين، سواء من خلال صفقة تبادل وفق الشروط الإسرائيلية، أو بهزيمة المقاومة وإطلاق سراحهم بالقوة.
ثانيًا: سحب الغطاء الدولي عن الحرب الإسرائيلية والتهديد بسحب الغطاء الأميركي
يمكن تلخيص أسباب التحول بأن الغطاء الدولي للحرب الإسرائيلية سحب، وخصوصًا بعد قتل عمال الإغاثة من المطبخ المركزي العالمي، وأن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هددت كما ظهر في المكالمة الأخيرة بين بايدن ونتنياهو بسحب الغطاء الأميركي إذا لم تغيّر الحكومة الإسرائيلية من سياستها، خصوصًا إزاء تدفق المساعدات الإنسانية، وعدم استهداف المدنيين أو تقليل الضحايا من بينهم، ومنح تفويض للمفاوضين الإسرائيليين بالتوصل إلى اتفاق يسمح بالتقدم على طريق وقف إطلاق نار مستدام، والانتقال الكلي بالحرب إلى مرحلة ثالثة يتم الاكتفاء فيها بتنفيذ عمليات دقيقة ومدروسة، والكف عن خلق حقائق تدل على نوايا إسرائيلية للبقاء في قطاع غزة لفترة طويلة.
تعود أسباب التهديد الأميركي إلى أن الأيام والأسابيع والأشهر تمضي من دون أن تحقق قوات الاحتلال أهدافها، فلا تزال المقاومة صامدة وتقاتل وتوقع الخسائر في صفوف جيش الاحتلال وتطلق الصواريخ على غلاف غزة، لدرجة أن آخر رشقة صواريخ أطلقت من المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية في خان يونس أخيرًا.
ثالثًا: الخشية من تصاعد الحرب وتحوّلها إلى إقليمية
تزايدت احتمالات استمرار الحرب وتصاعدها ودخول أطراف جديدة فيها مثل إيران، خصوصًا بعد الاعتداء على القنصلية الإيرانية في دمشق، الذي راح ضحيته عدد من الضباط والقادة العسكريين الإيرانيين؛ ما دفع طهران وعلى كل المستويات إلى التعهد بالرد، الذي يبدو أنه آتٍ حتمًا.
ولكن السؤال: متى موعد الرد الإيراني، وماذا سيستهدف وما حجمه، وهل سيؤدي إلى رد إسرائيلي ومن ثم رد إيراني آخر وفتح الطريق إلى تصاعد الحرب وفتح جبهات جديدة، أم يأتي ضمن رد محدود يتم احتواؤه ما يحول دون الحرب الإقليمية ويفتح الطريق لوقف الحرب؟
لا يريد الحرب الإقليمية سوى نتنياهو ووزير حربه ورئيس أركانه، الذين يخشون وقف الحرب من دون نصر إسرائيلي واضح؛ ما يزيد من المساءلة والحساب الذي سيتعرضون له جراء الإخفاق التاريخي في السابع من أكتوبر، الذي استمر طوال أشهر الحرب التي سقطت فيها نظرية الردع الإسرائيلي، كما شاهدنا بأن إسرائيل لم تبدأ الحرب ولم تحصرها في الجبهة الداخلية للأعداء، ولم تتمكن من حسمها بسرعة، فهي أطول حربٍ تخوضها إسرائيل، وهذا ضاعف الخسائر، وخصوصًا الاقتصادية؛ إذ يشير الخبراء إلى أن الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة بلغت حتى الآن 132 مليار دولار، فضلًا عن تهجير مئات الآلاف داخل إسرائيل، ومثلهم وأكثر منهم إلى الخارج.
ولا يريد نتنياهو استمرار الحرب لضمان بقائه السياسي وتجنب التحقيقات والمسألة وعودة ملاحقته قضائيًا على قضايا الفساد الملاحق بها فقط، بل لأنه يؤمن بأن وقف الحرب من دون نصر حاسم سيضع علامة سؤال كبيرة على مكانة إسرائيل الإستراتيجية ومستقبلها في المنطقة، ويؤيد نتنياهو أغلبية كبيرة في إسرائيل، ولكنهم يريدون استئناف الحرب بقيادة جديدة قادرة على الانتصار من دون خسارة العالم، وصولًا إلى خسارة الحليف الأكبر، الولايات المتحدة الأميركية، التي من دونها لا تستطيع أن تنتصر إسرائيل، ولا أن تتواصل بالوجود كما بر هنت وقائع الحرب.
رابعًا: تزايد الضغط الداخلي على حكومة نتنياهو
ثمة عامل آخر يضغط على حكومة نتنياهو، وهو الضغط الداخلي الذي يتزايد بشكل متسارع بمشاركة أكثر من جهة، من قبل أهالي الأسرى ومناصريهم الذين باتوا على قناعة بأن نتنياهو لا يولي الاهتمام اللازم بمصير أبنائهم، لا سيما في ظل تزايد عدد الموتى من بينهم، ومن قبل المعارضة التي تطالب بسقوط الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة في هذا العام.
ويذكر أن عدد المطالبين بالانتخابات المبكرة كما تشير المظاهرات والاستطلاعات باتوا يمثلون الأغلبية في إسرائيل، وهذا ينذر بأن احتمال خروج مئات الآلاف إلى الشوارع وربما اللجوء إلى نوع من العصيان المدني يتصاعد، ولا يمنعه الإجماع الإسرائيلي على استمرار الحرب، فالإسرائيليون يريدون الحرب ولكن كما أشرت آنفًا بقيادة سياسية وعسكرية مختلفة، فقيادة نتنياهو فشلت في تحقيق أهداف الحرب وتقود إسرائيل إلى الهزيمة.
خامسًا: تغير سياسة البيت الأبيض تجاه الحرب
يؤدي تأثير استمرار الحرب والدعم الأميركي لها، على الرغم من حرب الإبادة الجماعية والمجازر والتجويع إلى حد القتل، إلى تراجع فرص فوز بايدن في الانتخابات الرئاسية، وهذا ساهم في تغير سياسة إدارة البيت الأبيض، فالمنافسة حامية جدًا والفوارق بين الرئيس السابق دونالد ترامب والرئيس الحالي جو بايدن كما تظهرها الاستطلاعات قليلة.
كما أن الاهتمام الأميركي المتزايد بما يجري من حرب وتأثيره في الانتخابات يجعل امتناع حتى 1% من التصويت لبايدن ربما يفقده فرصه في الفوز، فآخر ما يريده أن تستمر الحرب وتتصاعد وتتحول إلى حرب إقليمية عشية الانتخابات الرئاسية، فهو سيحرص على إيقافها قبل موعد الانتخابات وعلى عدم تحولها إلى حرب إقليمية، بينما نتنياهو يريد استمرارها لأسباب عدة من بينها أنه يريد فوز ترامب وسقوط بايدن.
الأيام والأسابيع القادمة حاسمة: إلى أين ستسير الحرب؟
لا نبالغ في القول إن الأيام وعلى الأكثر الأسابيع القليلة القادمة ستحسم إلى أين تسير الحرب، هل نحو التوقف، أم الاستمرار ولو بوتائر جديدة، أم التصعيد والتحول إلى حرب إقليمية؟
على الرغم من المنافسة الشديدة بين هذه السيناريوهات المختلفة، فإن السيناريو الأقوى كان استمرار الحرب إلى ما قبل قتل عمال الإغاثة الأجانب وقصف القنصلية الإيرانية، لكن الحال تغير؛ إذ أصبح هناك تنافس بين وقف الحرب واستمرارها وتصاعدها، مع ميل الكفة إلى وقف الحرب، والتوصل إلى هدنة قد تقود إلى وقف الحرب، من دون أن يعني ذلك وقفها كليًا بل تغيير شكل الحرب، من خلال سعي قوات الاحتلال إلى السيطرة على محور صلاح الدين لتصبح مسيطرة على كل الحدود، وإلى حصار رفح وتنفيذ عمليات اغتيال واقتحام وتدمير من دون بقاء القوات الإسرائيلية في عمق القطاع بشكل دائم، بل على الأرجح ستبقى في نقاط محددة محصنة، مع الاحتفاظ بالمناطق العازلة والآمنة التي تصل مساحتها إلى 16% من مساحة قطاع غزة، مع فصل الشمال عن الجنوب، وفتح باب الهجرة التي تسمى "طوعية"، وهي قسرية تأخذ شكل الهجرة الطوعية.
وهنا، لا بد من الحذر من أن تل أبيب وواشنطن ستواصلان العمل لتحقيق أهداف العدوان بعد وقف الحرب البرية، من خلال توظيف الحاجة الماسة للإغاثة والإعمار وإعادة البناء لتحقيق الأهداف التي لم تتحقق من خلال حرب الإبادة، ومن خلال فرض خطة اليوم التالي بما يحقق الأهداف الأميركية والإسرائيلية بمنع عودة سلطة "حماس" وفرض سلطة جديدة متجددة، وبث الفتنة والاقتتال بين الفلسطينيين، والمضي في تطبيق مخطط دمج إسرائيل في المنطقة، والمزيد من تطبيع العلاقات العربية والإسرائيلية معها لخلق الشرق الأوسط الجديد، الذي يضمن بقاء المنطقة تحت الهيمنة الأميركية، ومنع تقدم النفوذ الصيني والروسي والإيراني.
ما منع تحقيق أهداف العدوان العسكري لا يكفي بالضرورة لمنع تحقيق أهداف العدوان السياسي، وهذا يتطلب الوعي العميق، واليقظة الشديدة، وعدم الانزلاق إلى الحرب الأهلية في ظل أن المعروض، أو الذي يمكن أن يعرض على الفلسطينيين في أحسن الأحوال، مسارٌ سياسيٌ غير مضمون أبدًا بتحقيق دولة فلسطينية.
إن الدولة المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس، ومختلف الحقوق الفلسطينية والأهداف الكبرى الفلسطينية، لا تتحقق بالمفاوضات، وإنما بالمقاومة الشاملة والوحدة والقيادة الواحدة، التي تعمل على تغيير موازين القوى وإنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال من دون التنازل عن الحقوق والأهداف الأخرى.
إسرائيل غير جاهزة لحرب إقليمية، وتراهن على تدخل أميركي وربما بريطاني
ما يزيد من احتمال توقف الحرب أو تحولها إلى شكل آخر أقل كثافة أن إسرائيل غير جاهزة لحرب إقليمية، على الرغم من ادعاء قيادتها الحالية خلاف ذلك، وإذا اندلعت لا تضمن نتائجها، فإذا كانت عاجزة عن الانتصار على المقاومة الفلسطينية مع جبهات الإسناد، فكيف ستنتصر إذا فُتِحت جبهات أخرى وإذا تحولت إلى حرب إقليمية؟!
يمكن القول إن حكومة نتنياهو تراهن وهي تدفع الأمور نحو الحرب على تدخل أميركي وربما بريطاني لنجدتها، ولكن حتى هذا التدخل لا يضمن نتيجة الحرب، وإذا حصل سيكون محدودًا ومؤقتًا؛ لأن الحرب الإقليمية غير مضمونة النتائج ولو كانت كذلك لما تأخرت حتى الآن.
وعندما نتناول الخلافات التكتيكية الأميركية الإسرائيلية، يجب ألا نقفز عن الأبعاد الإستراتيجية التي تحكم العلاقة الأميركية الإسرائيلية التي ستتغلب على الخلافات التكتيكية بينهما، فواشنطن تحاول إنقاذ إسرائيل من مغامرات حكومتها وحماقتها.
التوصل إلى صفقة تبادل وهدنة ليس أمرًا سهلًا
إن التوصل إلى صفقة تبادل وهدنة في ظل الظروف الحالية وعلى الرغم مما سبق ليس أمرًا سهلًا، فهو صعب جدًا في ظل الفجوة الكبيرة بين شروط إسرائيل ومطالب المقاومة، ولكن التفاوض سيستمر مع توقف كلي أو نسبي لإطلاق النار، وربما يتم الاتفاق على وقف مؤقت لإطلاق النار لأيام عدة من دون صفقة تبادل، وربما مع صفقة تبادل جزئية تشمل مرحلة من المراحل الثلاث. فهناك حاجة لخفض حدة المعارك والتصعيد ومنع التحول إلى حرب إقليمية، والكثير يعتمد على الرد الإيراني، وهل سيأتي بسرعة أم لا، وما حجمه، وهل يمكن احتواؤه أم لا؟