تدخل الحرب على قطاع غزة شهرها السابع دون تحقيق أي من أهدافها، باستثاء جريمة الابادة الجماعية التي حصدت خلال الأشهر الستة الماضية ما يزيد على المئة وعشرين ألف شهيد ومفقود وجريح غالبيتهم من الأطفال والنساء، و نزوح أكثر من 90% من السكان، يتكدس حوالي 60-70 بالمئة منهم في محافظة رفح تحت تهديد إحتمال ارتكاب جريمة إبادة العصر في حال تُرك نتانياهو ينفذ اجتياح المدينة بذريعة استكمال القضاء على البنية التحتية للمقاومة، هذا بالإضافة للتدمير الشامل للبنية التحتية التي قدر البنك الدولي تكلفة اعادة بنائها بحوالي 18.5 مليار دولار، ناهيك عن تدمير ما يزيد عن 70% من المباني والوحدات السكنية، واستخدام التجويع كأبشع أشكال أسلحة الحروب الارهابية في التاريخ .
ومع ذلك، فقد أسقطت الحرب نظرية الجيش الذي لا يُقهر، و سقط معها رهان الغرب، سيما الولايات المتحدة، اعتبار إسرائيل شرطي حماية أطماعها ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة . فقد سارعت واشنطن و معها بعض العواصم الأوروبية لارسال أساطيلها وجسور الامداد العسكري الجوية والبحرية لنجدة إسرائيل من فشلها المدوي في السابع من اكتوبر.
كما اسقطت جريمة الابادة الجماعية المتواصلة ورقة توت ما يسمى بالمبادئ الأخلاقية و الانسانية التي طالما ادعتها دول الغرب،التي سارت كالقطيع خلف أكاذيب نتانياهو في محاولة وسم حركة مقاومة ضد الاحتلال "بالداعشية والنازية الجديدة" لتبرير جرائمه المُعدة مسبقاً، وأيضاً لتبرير صمت الغرب عليها، بل، ومساندته غير المشروطة لها.
تطورات وقائع الحرب وفشل أهدافها واحداً تلو الآخر، بفعل ارادة الناس على البقاء وصمودها الأسطوري رغم الكارثة الانسانية التي لحقت بهم، حرّكت الرأي العام الدولي الذي استمر متصاعداً، ليس فقط لوقف الحرب، بل ولمعالجة جذور الصراع الممتدة منذ نكبة فلسطين عام 1948 . فكان ذلك بمثابة الفشل المروِّع لحرب نتنياهو، والعنصرية الصهيونية التي طالما احتكرت الرأي العام الدولي، وسيطرت على مفاصله الإعلامية .
وبهذا أحيت دموية العدوان مدى الظلم الذي يقع على شعبنا منذ خمسة وسبعين عاماً، مؤكدة بذلك أن انفجار السابع من أكتوبر لم يأت من فراغ، كما صرح الأمين العام للأمم المتحدة"غوتريتش" الذي لم يرهبه الهجوم الإسرائيلي للمطالبة بتنحيته، بل زار معبر رفح مرتين لإظهار الكارثة الإنسانية وحرب التجويع التي تقترفها إسرائيل ضد المدنين من النساء والأطفال.ومع ذلك فقد فشلت مؤسسات الأمم المتحدة في وقف الحرب، رغم صدور قرار بذلك بامتناع واشنطن عن استخدام الڤيتو، ولكن دون تغيير جدي في سياستها وانحيازها الثابت لإسرائيل، رغم ما تلحقه من تهديد مباشر لفرص بايدين في الانتخابات .
حصاد نصف عام من الحرب
أظهرت الحرب بصورة قاطعة فشل الحلول العسكرية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ورغم تضليل ادارة بايدن التي تتلاعب بهذه الحقيقة، إلا أن الرأي العام الدولي وخاصة الأمريكي بات يدرك ذلك في تحوّل تاريخي، بالتأكيد سيكون له ما بعده في أجلٍ ليس ببعيد.
كما أن فشل ترسانة الحرب في استعادة الأسرى والمحتجزين الاسرائيليين بالقوة العسكرية، يؤكد أن الامكانية الوحيدة لاستعادتهم هي بالتوصل لصفقة تستجيب لمطالب الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يفتح الطريق أنه لا يمكن الاستمرار في حروب محاولات اخضاع الشعب الفلسطيني، وأنه لا يمكن تسوية الصراع دون الاستجابة لحقوقه المشروعة، وفي مقدمتها الاعتراف بحقه في تقرير المصير .
صحيح أن الإجماع الصهيوني ما زال يرفض الإقرار بهذه الحقوق، ولكن علينا أن نلاحظ أن الاجماع على الحرب آخذ بالتفكك تدريجياً، وأن المطالبة الأبرز في المجتمع الإسرائيلي تنصب على رحيل نتانياهو .
إلا أن هذه التطورات في مشهد الحرب وعلى أهميتها، لم تكن الوحيدة، فقد كشفت عجز الموقف العربي الذي فشل بصورة غير مسبوقة، ليس فقط في استثمار هذه التحولات، بل بات بعضهم يعتبرها عبئاً عليه ويتخوفون من انتشارها في بلدانهم.
الحروب العدوانية دوماً ما تدفع الدول والكيانات التي تتعرض لها لتوحيد صفوفها والنهوض بجبهتها الداخلية، إلا أن الحالة الفلسطينية ظلت خارج هذه المعادلة، فرغم اتضاح طبيعة الحرب وأهدافها الرامية إلى التهجير والابادة والضم والتصفية لمجمل المشروع الوطني، إلا أن موجبات اصلاح الحال واستعادة الوحدة ظلت الغائب الأكبر عن متطلبات المواجهة السياسية لها و رغم مطالب الإجماع الشعبي ومعه الأغلبية الساحقة من مواقف القوى الاجتماعية والسياسية، فقد فشلت القوى المهيمنة على المشهد السياسي في الاستجابة لهذه المطالب، بل استجابت للتضليل والمطالب الأمريكية، ودعواتها لما يُسمى بأجندة الإصلاح ، وكأن المشكلة لا تكمن في الاحتلال والحرب العدوانية ومخططات الضم، وتسعى لإلغاء قانون الأسرى وتغيير المناهج وغيرها من المطالب الاسرائيلية.
مضمون الإصلاح المطلوب
صحيح أن النظام السياسي الفلسطيني يحتاج إلى إصلاحات جذرية، ولكن جوهر الإصلاح الذي نحن بحاجة ماسة له هو الاصلاح السياسي لجهة وقف حالة الانفراد بالقرار الوطني سواء قرار" السلم أو الحرب"، وما يستدعيه ذلك من ضرورة اعادة بناء هيئات صنع القرار في اطار مؤسسات الوطنية الجامعة التي تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية، وبما يوقف تدهور مكانتها وتآكل شرعيتها الشعبية، التي أظهرت الحرب مدى عجزها.
بالتأكيد أن هناك تباينات سياسية لا يمكن تجاهلها، ولكنها لا يجب أن تكون سبباً لتمزيق هذه المؤسسات، بقدر الحاجة لاستثمار هذه التباينات في تعزيز عناصر القوة والمنعة الذاتية من خلال الإقرار بالتعددية وإدارتها بكفاءة، وليس الاستمرار بتكريس سياسة الإقصاء والتفرد في أخطر مراحل القضية الفلسطينية، و إدارة الظهر لمطالب التوافق، والذهاب إلى حكومة موالية وغير توافقية، ترسيخاً لاستراتيجية اللهاث وراء سراب وعود واشنطن، التي سرعان ما ستتراجع، ما لم نكن قادرين على توحيد خطابنا ومؤسساتنا السياسية، بما يعزز دور القوى المناهضة للحرب والاحتلال داخل الولايات المتحدة، ولدى مختلف شعوب ودول العالم .
العودة للوفاق بديلاً لاستمرار الانفراد
الحاجة لاعطاء بصيص أمل لأهل القطاع بالقدرة على مداواة جراحهم، ومنع تهجيرهم القسري، أو جراء الفشل في الاستجابة لمقومات بقائهم، يتطلب العودة دون مكابرة لمتطلبات الوفاق الوطني، وليس الاختباء وراء أن قوى المقاومة ترفض تمكين الحكومة من القيام بذلك. فهذه أسطوانة مشروخة، خاصة إذا كانت قوى المقاومة قادرة على ذلك، فلماذا لا يجري التوافق معها، وعدم اضاعة الوقت لمعالجة الأولويات التي خلفتها الحرب، بالاضافة إلى ضرورة عدم تبديد وإضاعة الفرصة التي ولدتها الحرب من تحولات هامة في الرأي العام الدولي، وبما يفتح الطريق لتدفيع إسرائيل ثمن جرائمها تمهيداً لانهاء الاحتلال .