ليلة ليلاء توجهت فيها الأنظار إلى السماء لتراقب طائرات بدون طيار وصواريخ كروز وباليستية، أطلقها الحرس الثوري الإيراني صوب دولة الاحتلال الإسرائيلي.
البعض عادت به الذاكرة للعام 1991 عندما انطلقت صواريخ بالستية من العراق إلى المكان نفسه، في ذلك الوقت كانت البهجة تعم السواد الأعظم من المواطنين العرب وبخاصة الفلسطينيين الذين اعتلوا سطوح المنازل ابتهاجاً في مشهد جنوني بانتظار الصواريخ، بينما هبط الإسرائيليون خوفاً إلى الملاجئ.
مفارقة الأمس لا تخلو من مغزى، أما مفارقة اليوم فكان عدد المبتهجين والمراهنين أقلية من المواطنين.
12 ساعة لخصت المشهد والاصطفافات والمواقع والغايات وإسقاط الرغبات.
يحاربون ولا يريدون الحرب، ولأنهم كذلك، أُبلغت دول الإقليم، وإدارة بايدن - قبل 72 ساعة من بدء الهجوم، ومع بداية ساعة الصفر، انطلقت الصواريخ والطائرات وعددها 300، وأعلن عن ساعة وصولها والأهداف التي ستقصفها على الهواء مباشرة.
«غلاسنوسيت» أو شفافية غير مسبوقة قللت من حجم الخسائر البشرية الإسرائيلية إلى الصفر ما عدا إصابة طفلة بدوية حسب الرواية الإسرائيلية.
الحرب مع إسرائيل وأميركا والغرب ليست هدفاً لإيران ذات الطموح النووي والتي تقترب من التحول إلى دولة نووية. وتعول على حضور إقليمي فاعل يتنافس مع إسرائيل، ويسعى إلى معاظمة نفوذه وتأثيره في الإقليم.
تعتمد إيران على تنظيمات جماهيرية مسلحة في أكثر من 5 بلدان عربية، مستعدة للدخول في مواجهات غير تقليدية مع دولة الاحتلال. وتعتمد أيضاً على اشمئزاز وغضب الشعوب العربية من نموذج الاستعمار الاستيطاني العنصري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والجولان السوري والحل الفاشي الذي يقدمه للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحرب الإبادة في قطاع غزة راهناً.
والحرب ليست هدفاً لإدارة بايدن التي يهمها التزام إيران بقواعد الهيمنة والتقاسم في المنطقة دون حرب، بثمن قبول إيران كطرف إقليمي ذي شأن في إطار علاقات الهيمنة الأميركية، كما تجسد في اتفاق 5+1 الدولي الذي يعترف بمكانة إيران الإقليمية في الوقت الذي يحتوي ويقنن فيه قدرات إيران النووية.
حكومة نتنياهو والمعسكر الفاشي الكاهاني الداعم لها هما من يرغبان بالحرب وبتحجيم إيران وإخضاعها للهيمنة الإسرائيلية.
كان نتنياهو وراء إلغاء دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق للاتفاق مع إيران، وهو يقاوم الآن كل محاولة للعودة إلى الاتفاق أو لإبرام اتفاق جديد.
ويسعى إلى تدمير المفاعل الإيراني بالحرب من أجل احتكار الهيمنة على المنطقة.
لهذا السبب من غير المستبعد رد حكومة نتنياهو على الهجوم الإيراني ومواصلة حرب الإبادة في غزة وتغيير قواعد الاشتباك مع حزب الله. فهي لا تكتفي بأن الهجوم لم يحدث ضرراً مادياً بإسرائيل، ولا تقيم وزناً لطلب الإدارة الأميركية وحكومات ألمانيا وفرنسا وبريطانيا بعدم الرد والاكتفاء بإحباط الهجوم، بل تنظر من موقعها كدولة متغطرسة إلى الجانب الرمزي للهجوم الإيراني.
إن تجرؤ إيران على شن هجوم واسع النطاق وغير مسبوق طال العمق الإسرائيلي ومناطق عسكرية حيوية، يعني المس بسياسة الردع والهيبة الإسرائيلية، ومن شأن ذلك تقوية حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق وغيرهم.
بعد 7 أكتوبر، وأثناء الهجوم الإيراني على إسرائيل رداً على مقتل 7 من الحرس الثوري بينهم قائد فيلق القدس في سورية ولبنان «محمد رضا زاهدي» حدث استنفار أميركي غربي لافت للأنظار، والذي أعاد التأكيد على علاقة فوق استراتيجية بين هذه الأقطاب.
لقد دمرت القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة 80 طائرة و6 صواريخ إيرانية أطلقت من إيران واليمن، ولم تحدد الصواريخ التي أسقطتها فرنسا وبريطانيا وغيرهما.
لقد شاهدت شعوب المنطقة والعالم أهم عرض لدعم إسرائيل، ليس بفتح ترسانات الأسلحة بلا حدود، وبفتح صنابير الأموال بالمليارات، والدعم السياسي بالفيتو وبحج قادة الغرب وجنرالاته إلى تل أبيب كما حدث بعد 7 أكتوبر، وإنما بإضافة عنصر جديد هو مشاركة الغرب الفعالة في إسقاط الصواريخ والمسيرات الإيرانية المتجهة نحو أهداف إسرائيلية.
في هذه الأثناء تم الإعلان عن جبهة عريضة دولية إقليمية من حول إسرائيل بقيادة المايسترو الأميركي، في مواجهة جبهة ضعيفة تضم إيران وتنظيماتها المبعثرة والتي تفتقد إلى المعادل الدولي الروسي الصيني مثلاً.
كل حديث عن استقلالية إسرائيل المستجدة في عهد حكومات نتنياهو غير مقنع أمام هذا النمط من العلاقات الاستراتيجية العميقة وقت الأزمات والحروب.
منطق الأمور أن يكون هناك انسجام بين الدعم المفتوح بلا حدود وبين القرارات السياسية، وأي اختلال بين الدعم والقرار يصبح نشازاً وغير مفهوم إلا إذا عبر عن التقاء المصالح وتوزيع الأدوار.
مثلاً تقويض حكومات نتنياهو لإقامة دولة فلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره - الحل الدولي -، وسياساته الاستيطانية المترافقة مع منظومة قوانين الأبارتهايد الاستعماري، لا يستقيم مع مناداة دول الحلف بالحل الدولي.
لا تفسير لمعادلة طرف يدمر الحل وطرف يدعو له في إطار جبهة متحدة المصالح والأهداف.
ولا تفسير لمعادلة طرف يدعو إلى وقف إطلاق النار والسماح بتقديم الغذاء والدواء والوقود والانتقال إلى الحل السياسي، وطرف يمارس حرب إبادة بلا رحمة في إطار حلف متحد المصالح والأهداف.
حرب التصفية السياسية وحرب الإبادة المادية التي تترجمها حكومة نتنياهو، وموقف الانفصام المرضي في الموقف الأميركي الأوروبي، هو الذي دفع الشعب الفلسطيني للبحث عن أي معارض لسياساتهم الظالمة حتى لو لم يكن حقيقياً، تماماً كالغريق الذي يتعلق بقشة.
هذا يفسر تأييد 7 أكتوبر – في شقه الذي استهدف عسكريين إسرائيليين – ويفسر التعويل الشعبي على محور المقاومة والممانعة وروسيا والصين وكل هؤلاء لا يمتلكون الحل بل إن محور المقاومة والممانعة ضد الحل الدولي ويدعو إلى حسم الصراع، علما أن الحسم يكون لصالح الطرف الأقوى في الحرب وهو معروف جيداً.
في حروب اليوم تتكشف المأساة التي يصنعها الحلف «المقدس»، والملهاة التي يصنعها الممانعون، للشعوب.
في الوقت الذي تفتقد فيه الشعوب إلى حلف التحرر الفعلي. نتيجة لا تسر ناظراً لافتقادها إلى مخرج عملي، فلا يوجد استقطاب حول التحرر الفعلي، وعلى المرء أن يكون ضمن ثنائية المأساة والملهاة. ولكن في حرب الإبادة التي تستهدف 2.3 مليون كان المستهدفون ضد الذين يزاولون الإبادة والتهجير والتجويع، ولم يكونوا مع ملهاة جديدة.
وأثناء الهجوم الإيراني بالصواريخ والمسيّرات على إسرائيل كانت المشاعر الفلسطينية مع كل ما من شأنه كبح أو إضعاف آلة الحرب الإسرائيلية التي تقتل وتدمر وتهجّر وتنهب الأرض في غزة والضفة والقدس.
أن تكون ضد صانعي كارثتك موقف طبيعي ومنطقي، وطبيعي أكثر ألا تكون مع ملهاة جديدة، موقف يخلف فراغاً في قطبي الثنائية، بانتظار إفاقة من داخل المعمعان.