ما زالت الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل وبرفقتهما عدد واسع من الدول الغربية، يقاربون معركة "طوفان الاقصى" باعتبارها حدثا مفصولا عن التاريخ ومنعزلا عن تفاصيل الصراع الفلسطيني الذي نشأ وما زال متواصلا بفعل احتلال أرض فلسطين وتهجير شعبها. ولن تغير من هذه الحقيقة روايات صاغتها الحركة الصهيونية وانساقت خلفها العديد من الدول الغربية، لأسباب استعمارية ومصالح اقتصادية وخرافات تاريخية ودينية.
لم نفاجأ بتحالف الاعلام الغربي مع الدعاية الصهيونية، الذي هو جزء من تحالف اوسع بين هذا الاعلام والدول الاستعمارية التي تجد لها مصلحة في وجود اسرائيل قوية في قلب منطقة الشرق الاوسط، حيث شكلت نقطة محورية في اكثر من مشروع سياسي واقتصادي امريكي، وآخر هذه المشاريع الممر الاقتصادي، الذي سيربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، عبر السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن وإسرائيل. وقد كان نتنياهو افضل معبر عنه حين قال ما حرفيته: ازف لمواطني اسرائيل بشرى سعيدة، حيث سنلعب دورًا محوريًا في مشروع دولي غير مسبوق، والذي هو عبارة عن مشروع من شأنه وضع البنى التحتية التي تربط آسيا بأوروبا، وسيحقق هذا الربط رؤية تعود إلى سنين طويلة، وهي ستغير وجه الشرق الأوسط ووجه إسرائيل".
الانسياق الاعمى لبعض الاعلام الغربي خلف الروايات الصهيونية بدا واضحا منذ الايام الاولى للعدوان الاسرائيلي الغربي على قطاع غزه، حين قال الرئيس الامريكي الذي زار اسرائيل داعما: "اطفال اسرائيليون قطعت رؤوسهم، ونساء اغتصبت واناس احرقوا". وحين سئل عن مصدر هذه المعلومات ردت الادارة الامريكية بأنها لا تملك اية أدلة موثقة، وان تصريحات الرئيس مستوحاة من مكالمة هاتفية اجراها مع نتنياهو، ومن تقارير صحفية إسرائيلية. ولن نسأل هنا عن تقارير الوكالات والهيئات الاستخباراتية والامنية الامريكية وما الذي نقلته للإدارة الامريكية، وهي التي تملك من القدرات والتقنيات ما يجعلها قادرة على معرفة الحقيقة دون الحاجة لتقارير من هنا وهناك. لكن رغم اتضاح حقيقة المزاعم الامريكية، واصلت بعض وسائل الاعلام الغربية وسياسيون ومثقفون واعلاميون، حتى هذه اللحظة، التحريض على الشعب الفلسطيني ومقاومته، والترويج لاكاذيب الرئيس الامريكي عن حقيقة ما جرى، ما يجعلنا نتيقن من حقيقة القيم التي يدّعي العالم الغربي انه يدافع عنها كالعدالة والحرية والديمقراطية وغيرها من قيم يبدو واضحا انها مفصّلة على مقاس هذا وذاك.
من حقنا التشكيك في صدقية وموضوعية ومهنية الاعلام الغربي، فالمؤكد ان هذا الاعلام علم بأخبار سرقة الاحتلال لأطفال فلسطينيين رضع من قطاع غزه، وقد وصلته ايضا المعلومات عن سرقة الاحتلال لأعضاء من عدد من جثامين الشهداء (نحو 80 جثة)، عندما تم اقتحام المستشفيات، وأخذ حين غادرها عددا كبيرا من الجثث التي كانت في ثلاجات الموتى، خاصة مجمع الشفاء الطبي، عندما تم اقتحامه في المرحلة الاولى، وبعد تسليمها رفض الاحتلال تحديد الأماكن التي سرقها منها، ليتبين أن ملامح الشهداء قد تغيرت وان اعضاء حيوية من أجساد الشهداء قد سرقت. وتكرر الامر مرة أخرى حين قام الاحتلال بنبش قبور وسرقة بعض الجثامين، إضافة إلى أنه لا يزال يحتجز عشرات جثامين الشهداء من قطاع غزة. الا تستحق هذه الجريمة كلمة من السياسيين والاعلاميين الغربيين الغيارى على "حقوق الانسان الإسرائيلي"؟
الجرائم التي اقترفها الاحتلال تم توثيقها من قبل عشرات المؤسسات، لكنها غابت عن شاشات الاعلام الغربي، بينما أكاذيب الحركة الصهيونية والإدارة الامريكية، ورغم انها مجرد مزاعم وغير موثقة، فما زالت بالنسبة لهم حقيقة راسخة يجري النفخ فيها بشكل يومي في النقاشات السياسية والإعلامية الغربية، بل ان أحزابا كبيرة وتيارات شعبية انساقت خلف الدعايات الكاذبة، ولم يكلفوا انفسهم عناء السؤال والتحري عن اسباب ما جرى وعن حقيقة أن ما يحدث في قطاع غزه يفوق في فظائعه كل جرائم الحرب التي شهدها العصر الحديث، وان التوصيف الحقيقي هو الذي عبر عنه مسؤولو الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، بأن جرائم حرب حقيقية ارتكبت امام عدسات الكاميرات وعلى الهواء مباشرة في قطاع غزه.
حتى ان تقارير بعض الاعلام الاسرائيلي الذي حاول ان يدّعي موضوعية لم ترد على السنة السياسيين وغابت من على شاشات الاعلام الغربية، خاصة تلك المعلومات التي اوردتها صحيفة "هآرتس" بأن "الشرطة الإسرائيلية تواجه صعوبة في تحديد مكان ضحايا الاعتداءات الجنسية أو الشهود عليها". ووصل الامر بالشرطة الاسرائيلية درجة مناشدة الجمهور لتشجيع أولئك الذين لديهم معلومات حول هذا الموضوع على التقدم والإدلاء بشهادتهم. فأي اعلام هذا الذي ليس له هدف سوى نشر ما ينسحم مع الرواية الاسرائيلية الامريكية، واية مهنية هذه التي لا تتعاطى الا بشكل مجزوء جدا مع الاحداث، واي صدقية لاعلام تم برمجته على نسق الدعاية التي صاغتها الحركة الصهيونية منذ بداية العدوان لتبرير حرب الابادة التي ترتكب ضد الاطفال والنساء في قطاع غزه.
اذا كنا نعلم الخلفيات التي تتحكم بالمواقف التاريخية لبعض القوى والاتجاهات اليمينية وسياساتها تجاه اسرائيل والشعب الفلسطيني، وهي سياسات منحازة سمتها المعايير المزدوجة البعيدة كليا عن قيم العدالة والقانون والانسانية وحتى الاخلاق السياسية، لكن ما ليس مفهوما، هو مواقف بعض القوى والاحزاب الغربية، التي كانت حتى وقت قريب تدّعي حرصها على القانون والعدالة الدولية، وانحازت في مواقفها الى الرواية الصهيونية، رغم معرفتها بأن أسبابا كثيرة تراكمت عبر عقود لتوصل الى الانفجار الكبير الذي حدث في 7 تشرين الاول، وكان الفلسطيني اول من حذر العالم من مغبة الوصول اليه نتيجة مسار طويل من المعاناة التي عاشها الشعب الفلسطيني على مدار سنوات وعقود.
رغم حديثنا المتكرر حول اسباب وحيثيات معركة "طوفان الاقصى"، نجد مفيدا ايضا التأكيد على مجموعة حقائق وثوابت تعتبر كافية لأن يعلن الشعب الفلسطيني في مواجهتها اكثر من انتفاضة وثورة.
أولا) رغم مرور الزمن، لكن لا يجب نسيان ان هناك شعب قد قتل وارتكبت بحقه عشرات المجازر منذ العام 1948، واحرقت قراه ومدنه وشرد في بقاع الارض نتيجة عمليات ارهابية قامت بها مجموعات صهيونية شكلت فيما بعد الجيش الاسرائيلي الذي واصل السير على خطى مجموعاته المسلحة.
ثانيا) رغم ان منظمة التحرير الفلسطينية قد دخلت في عملية تفاوضية مع اسرائيل منذ العام 1991، ووقعت معها اتفاق اوسلو، الا ان اسرائيل قضت على هذا الاتفاق بممارساتها الارهابية في الضفة وغزة، واعتبرت الاتفاقية غير موجودة، لا بل اعادت احتلال المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، وها هو برنامج حكومتهم الفاشية يعمل على ضم الضفة الغربية وتهجير اهلها، أصحاب الأرض الحقيقيين.
ثالثا) المستوطنون في الضفة الغربية جيش مسلح يعمل الى جانب جيش الاحتلال، وبحمايته يرتكبون الجرائم اليومية، "وبحماية القانون" يفلتون من العقاب، حيث لم تسجل معاقبة او محاكمة مستوطن على جرائم ترتكب بشكل يومي في فلسطين. وفي المقابل نجد العالم مكتفيا باصدار اعلانات اللوم والعتب على اسرائيل وعلى زعماء المستوطنين الذين يسرحون ويمرحون دون محاسبة على جرائمهم.
رابعا) اضافة الى الجرائم الاسرائيلية التي كانت ترتكب في الضفة الغربية من قتل واعتقال واستيطان وهدم منازل وبناء جدار الفصل العنصري داخل الأرضي الفلسطينية وسرقة المياه الفلسطينية والتحكم في حركة الاقتصاد الفلسطيني، ناهيك عن الحصار الذي كان مفروضا على قطاع غزه، ومن تداعياته ان القطاع عاش في سجن كبير محاصر من البر والبحر والجو، معزول عن العالم ومحروم من حرية الحركة من والى القطاع.
امام كل هذا، لم نسمع من القوى الدولية ومن الاحزاب الداعمة لاسرائيل الا الإدانة الكلامية التي لم تصل الى اسماع القادة الاسرائيليين، وهم ما زالوا يصرون على فرض مشاريعهم الاستعمارية في الضفة الغربية المحتلة، ما يؤسس لانفجار جديد من المؤكد انه قادم، خاصة وان الحكومة الفاشية في اسرائيل اعلنت صراحة وبشكل واضح ان برنامجها هو ضم الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 وترحيل الشعب الفلسطيني خارج فلسطين.
والمعادلة بالنسبة لهم باتت: اما القبول بالضم او التهجير، ومن يعترض امامه احد امرين: السجن او القتل.
ان من يؤيد او يصمت على حرب ابادة طالت الآلاف من النساء والاطفال، ومن يوافق على القاء اطنان من القنابل فوق قطاع غزة الاكثر كثافة في السكان، ومن يقبل بتدمير مئات آلاف المنازل والمستشفيات والمقار الدولية والمدارس والافران، كل من يؤيد هذه الجرائم لا يمكن ان ينتمي الى الحد الادنى من الانسانية، لأن ما يحصل في فلسطين من جرائم تستحق ان تعلن بسببها كل يوم الف ثورة وفي كل لحظة مقاومة.
من يتابع فكر ومؤسسات النخب الإسرائيلية الحاكمة في إسرائيل منذ العام 1948، يتأكد له بالملموس اننا امام عقلية صهيونية استئصالية، هي نتاج عقيدة تؤمن بالقتل والارهاب لتحقيق اهدافها السياسية، والتي تترجم في العدوان على قطاع غزة وباستهداف الحاضة الشعبية للمقاومة الفلسطينية، أي قتل المدنيين من النساء والأطفال وتدمير المنازل فوق رؤوس ساكنيها واتباع سياسة الأرض المحروقة، وهذه نظرية مستوحاة من نظرية لجأت اليها القوات الامريكية وطبقتها في فيتنام، اعتقادا منهما ان المقاومة سترفع الراية البيضاء.
الشعب الفلسطيني هو ضحية المشروعين الامبريالي والصهيوني، ورغم عشرات القرارات الدولية التي تقر للشعب الفلسطيني بحقه في ارضه وفي ممارسة حقوقه الوطنية في دولة مستقلة سيدة وعاصمتها القدس بعيدا عن كل اشكال الاحتلال والاستعمار، الا ان انحياز القوى الغربية الى جانب إسرائيل ومدها بكل اشكال البقاء وتوفير الحماية السياسية والأمنية لها، ساهم في نشأة مجتمع اسرائيلي ونخب لا يعترفون بوجود الشعب الفلسطيني، ولا يؤمنون بأية حقوق سياسية له. بل ان نتنياهو وغيره لا يعترفون اصلا بمشكلة فلسطينية إسرائيلية. فكيف يمكن والحالة هذه تحميل الفلسطيني مسؤولية ردة فعل طبيعية وموضوعية في دفاعه عن وجوده بأرضه.
هي فقط وقفة ضمير مع الذات الانسانية للتعاطي الموضوعي مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كونه صراعا بين محتل غاز وشعب احتلت ارضه ويناضل من اجل تحريرها، وعلى هذه الأرضية نقدر للقوى التي تحترم قيم العدالة والحرية والانسانية فهمها حقيقة ما حصل في 7 أكتوبر باعتباره امتدادا لصراع عمره اكثر من 75 عاما من الاحتلال والقتل والاعتقال، ونشكرها لتفاعلها اليومي في تحركاتها الشعبية دعما للشعب الفلسطيني، ونعتبر ان حرب الابادة التي يتعرض لها قطاع غزة، وقبل ذلك حملات التطهير العرقي في الضفة، هي وصمة عار ليس فقط في جبين الكيان الصهيوني فقط، بل ووصمة عار على جبين كل من دعم وايد وصمت على ما يحدث من إرهاب إسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.
التأكيد المكرر هو حق الشعب الفلسطيني بمختلف تياراته في مقاومة الاحتلال والاستيطان طالما هم محتلون للأرض الفلسطينية، والقناعة بان هزيمة الامبريالية العالمية لن تكون وليدة حرب او معركة واحدة، بل نتيجة مجموعة من الحروب والمعارك السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية على مستوى العالم، خاصة اننا امام تحرك واضح لشعوب تصارع من اجل حقوقها، والمستقبل هو حتما نصير الشعوب الحرة والمناضلة من اجل مستقبلها وكرامتها.