تمر منطقة الشرق الأوسط بتفاعلات سياسية خطيرة، تجسدت بحالة من الصراع الدموي المفتوح على مصراعيه منذ ستة شهور متتالية، وقد يفتح ذلك الطريق لحرب إقليمية أوسع يمكن أن تغرق المنطقة بمزيد من الاضطرابات والمعاناة. وليس خفياً أن السبب المباشر والرئيس لذلك التدهور يرجع لصعود حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة لسدة الحكم، فالكيان المحتل رغم أنه طالما حافظ على حالة اشتباك وتوتر سواء مع الفلسطينيين أو تجاه لبنان وسورية وإيران طوال السنوات الماضية، إلا أن حكومة نتنياهو الأخيرة افتتحت مرحلة جديدة من التصعيد المتصاعد والمفتوح مع الفلسطينيين ودول المنطقة. ويعود السبب الثاني لهذا التدهور الخطير في المنطقة لسياسة الولايات المتحدة والدول الغربية التي تدور في فلكها، والتي تطلق على نفسها «العالم الحر»، فقد أثبتت التطورات الأخيرة أن ذلك العالم الغربي لا يهتم إلا لضمان بقاء إسرائيل، حتى وإن تجاوزت الحدود المقبولة والمرسومة، والذي يعكس منظوراً استعلائياً غربياً مصلحياً، يستوجب مراجعة. بات من الواضح أن التدخل الغربي في المنطقة يأتي على حساب استقرارها وحياة أبنائها، وبات من الضروري على دولها إعادة النظر فيه.
تمثل الحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة اليوم قباحة الاحتلال وواقعه، الذي يعيش في ظله الفلسطينيون منذ عقود، مع بقاء الاحتلال الحقيقة الثابتة، بدرجات متفاوته من قمع سلطات الاحتلال، تضمن بقاء حاله من العجز والتبعية تخيم على واقع الفلسطينيين، وتضمن عدم قدرتهم على تحقيق الاستقلال الوطني والقرار الحر، بدعم كامل من الولايات المتحدة والدول الغربية، التي تعترف ظاهرياً وخطابياً بحل الدولتين، مع عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وعدم قمع سياسات الكيان القائم بالاحتلال الرافضة لتحقيق حل الدولتين والمعطلة عملياً على الأرض تحقيقه، والتي تعاقب الفلسطينيين اقتصادياً إن انتقدوا سياسات محتلهم أو تصدّوا لها.
خلال التطورات الأخيرة في المنطقة، لم تستطع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الاحتفاظ بقناع «العالم الحر»، وكشفت عن وجهها الاستعماري القبيح والمنحاز تجاه دول المنطقة. فبعد هجوم ٧ أكتوبر، فصلت تلك الدول ذلك الحادث عن سياقه، متناسيةً الواقع الظالم الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال منذ عقود. وكانت مكافأه الفلسطينيين، الذين تحملوا ظلم الاحتلال، على مدار عقود طويلة، ودعم هذه المنظومة الدولية الغربية له، فلا اللاجئون الفلسطينيون عادوا، رغم مرور اكثر من سبعة عقود، ولا الدولة الفلسطينية الحرة قامت، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على عملية سلمية وهمية، جاءت في الحقيقة لتخدير الفلسطينيين، بينما تستمر سياسات الاحتلال لاستكمال السيطرة على الأرض.
يقف «العالم الحر» اليوم، الذي يعيش الاحتلال بدعمه العسكري والاقتصادي والسياسي، متفرجاً على ذبح عشرات الآلاف من الأبرياء وتشريد مليونَي إنسان وتدمير بيوتهم في غزة، والاعتداءات اليومية على حياتهم وممتلكاتهم ومقدساتهم في الضفة والقدس. ركزت قناة الفوكس نيوز الاميركية واسعة الشهرة على إصابة طفلة فلسطينية بدوية من سكان صحراء النقب بجراح خطيرة، من شظايا صاروخ إيراني، بينما عشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء، بينهم آلاف الأطفال يسقطون شهداء او تقطع أوصالهم يومياً، بسبب صواريخ إسرائيلية مباشرة تسقطها عليهم آلة الحرب الاسرائيلية، المدعومة أميركياً وغربياً، تبقى بدون تغطية، بل تحاول تلك القنوات ألّا تصل هذه الاخبار للشعب الأميركي.
وأوعزت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية إلى الصحافيين الذين يغطون الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بتقييد استخدام مصطلحَي «الإبادة الجماعية» و»التطهير العرقي»، وتجنب استخدام عبارة «الأراضي المحتلة» عند وصف الأراضي الفلسطينية. إن ذلك العالم الغربي، الذي لم يتجرأ على انتقاد إسرائيل عندما أقدمت على قصف قنصلية إيران في سورية، منتهكةً القانون الدولي بحق إيران وسورية، بينما اعتبرت الرد الطبيعي والمحسوب لإيران على ذلك الانتهاك، يعرّض الأمن والسلم الدوليين للخطر، بل وشاركت في حماية إسرائيل والدفاع عنها.
إن ذلك الانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل على حساب دول المنطقة، مع الإقرار بذلك الانحياز اليوم دون مواربة، يحتاج لمراجعة. فالتدخل للدفاع عن حق الاحتلال بالوجود على حساب وجود السكان الأصليين وحياتهم في فلسطين، ودول المنطقة الأصلية والراسخة فيها، يعتبر أمراً شاذاً ويحتاج للوقوف عنده ومواجهته، حماية لمستقبل المنطقة بأسرها.
يأتي ذلك مع وضع عدد من الحقائق بعين الاعتبار، على رأسها أن واقع الكيان المحتل اليوم في أسوأ حالاته، والذي يتضح من خلال وجود حكومة يمينية متطرفة فقدت السيطرة على تصرفاتها. فالإجرام الذي يُرتكب بغزة اليوم من الصعب أن يُرتكب من قبل حكومة حكيمة، والإقدام على ضرب قنصلية دولة أُخرى على أرض دولة ثالثة، أبعد ما يكون عن الحكمة. وتدخل الولايات المتحدة والدول الغربية التابعة لنهجها لحماية إسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر من أي ضربات خارجية، وفتح ممر جوي وبحري لا يتوقف لإمدادها بالسلاح والعتاد لمواجهة حركتي «حماس» و»حزب الله» المقاومتين للاحتلال في غزة وجنوب لبنان، وهي تلك التي تعهدت عبر عقود لضمان تفوقها العسكري عن جميع دول المنطقة، يرفع علامة سؤال كبيرة حول مقدرة إسرائيل على الصمود، دون دعم أميركا وحلفائها، والقرار السياسي الغربي بفرضها في المنطقة على حساب استقرار دولها.
وتؤكد الحقيقة الثانية أن التزام الولايات المتحدة باسرائيل، بصورتها الحالية، بات على حسابها ومصالحها. فاليوم لا تقوى إدارة بايدن على تحجيم إسرائيل أو حتى حمايتها من ذاتها، بل باتت تتماشى مع قراراتها الهوجاء. ففي غزة، لم تنجح الولايات المتحدة بتحقيق صفقة تبادل تُخرج المحتجزين في غزة، ولم تنجح بثني إسرائيل عن جرائمها المنتقَدة عالمياً، حتى وإن كان ذلك على حساب مستقبل بقاء ادارة بايدن في الحكم، كما لم تنجح الولايات المتحدة بتقويض مساعي حكومة نتنياهو، والتي تشير التحليلات إلى أنها لا تمانع في استمرار الحرب في غزة وفتح جبهات قتال أخرى في لبنان أو مع إيران، من أجل ضمان بقائها في السلطة، رغم تصريحات الولايات المتحدة الصريحة بعدم رغبتها بتمدد الصراع والحروب في المنطقة. ويبدو أن الولايات المتحدة لا تستطيع منع إسرائيل من الانخراط في مزيد من الصراعات، من أجل ضمان بقائها واستمرارها فحسب، بل تفرض إسرائيل عليها الانخراط فيها، وتكون جزءاً منها. فالولايات المتحدة لا تريد حرباً مع إيران، لكنها شاركت في الدفاع عن إسرائيل، في هجوم عليها تسببت هي به، وتصر على استكمال المعركة، على غير الرغبة الأميركية، إلا أن الالتزام الأميركي بإسرائيل سيفرض عليها الانزلاق معها في حرب لا تريدها الولايات المتحدة.
استطاعت الإدارات الأميركية السابقة منع إسرائيل من شن حرب على إيران، بعد أن شنت الولايات المتحدة حربها على الإرهاب مطلع الألفية الجديدة، واعتبار إيران إحدى دول محور الشر، توجهت إيران لبناء ترسانة نووية ردعية، في ظل تلك التطورات في المنطقة، ومع وجود إسرائيل النووية الغربية فيها والمعادية لإيران. منذ ذلك الوقت أصبحت إيران من بين أهم أهداف إسرائيل، وسعت لإقناع الولايات المتحدة لشن حرب ضدها. لم يتجاوب الرئيس جورج بوش الابن ولا أوباما ولا حتى ترامب، مع مخططات إسرائيل، بشن هجوم عسكري عليها، رغم تعاون الإدارات الأميركية المختلفة في فرض عقوبات على إيران وفي دعم إسرائيل بحروب الظل عليها، السيبرانية والاغتيالات والسفن. إلا أن ادارة بايدن الضعيفة والمتخبطة بتصريحاتها وسياساتها، تكشف عن عجزها حتى الآن بالتصدي لمخططات هذه الحكومة اليمينية الطائشة، فهل تنجح إسرائيل بإشعال المنطقة، وتوريط الولايات المتحدة في مخططاتها، على غير رغبتها ومصلحتها؟
نجحت إيران من خلال ردها على هجوم إسرائيل على القنصلية الإيرانية، عبر رد محسوب بدقة، لا يسعى لتوسيع المعركة، بترسيخ معطيات جديدة لمعادلة الصراع في المنطقة، فمعادلة الردع بين البلدين اختلفت، ولم تعد إسرائيل حرة طليقة في اعتداءاتها على دول المنطقة. وقد يعود التطور المهم الذي رغبت إيران بإرسائه في ما يتعلق بمعادلة الردع، يعود لتبدلات جديدة حدثت في الميزان العسكري الإيراني، وعلى إسرائيل والغرب وضعها بعين الاعتبار، عندما يقرران توسيع المعركة. يأتي ذلك بالإضافة إلى حدوث تبدلات سياسية إيرانية على مستوى صقل التحالفات، والتي يمكن أن تكون قد تبلورت في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، وبتحولات استراتيجية ميدانية على جبهات متعددة في المنطقة بدءاً من فلسطين ومروراً بلبنان وسورية والعراق ووصولاً لليمن. تقف منطقتنا اليوم على شفا بركان، يتسبب به حكومة يمينية متهورة، وأميركية متخبطة، وليس من مصلحة أي دولة من دول المنطقة حدوث ذلك الانفجار. إن إعادة مراجعة الحسابات والتصدي لأي مخططات تقوّض استقرار ومستقبل منطقتنا بات أمراً ضرورياً اليوم، والمطلوب التكاتف العربي لمنع تفجّر البركان، الذي ستكون دول المنطقة وشعوبها الخاسرَ الأكبر فيه.