ثمة ما يدعو للاستنتاج بأنّ الأمم المتحدة كصيغة دولية أُنشئت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، لحماية وضمان أمن واستقرار شعوب الأرض، قد أذن ميعاد إصلاحها أو تغييرها.
لم تنجح الأمم المتحدة بصيغتها الراهنة، لا في منع الحروب، ولا في تخفيف الظلم والاضطهاد، ولا في سدّ الفجوات الهائلة بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها.
نشبت حروب استعمارية مباشرة، وغير مباشرة، ساهمت فيها دول الاستعمار القديم والحديث، وارتكبت خلالها مخالفات وانتهاكات لحقوق البشر، وحقوقهم في تقرير مصائرهم، والسيطرة على ثرواتهم.
الدول المكلّفة من خلال مجلس الأمن الدولي، بحماية القوانين الدولية ومواثيق الأمم المتحدة، هي أوّل وأكثر من عرض ويعرّض الأمن الدولي للخطر، وهي الأكثر انتهاكاً لقرارات الأمم المتحدة.
وطالما أنّ هذا العقد من الزمان، يشهد تحوّلات كبيرة نحو تغيير النظام العالمي، أحادي القطبية، وتراجع قوى وأدوار، وتقدم أخرى فإنّ من الطبيعي أن تكون لذلك آثاره العميقة على تركيبة وآليات عمل الأمم المتحدة، ومؤسّساتها وأجهزتها التنفيذية، وعلى دورها بشكلٍ عام.
فلسطين نالت أعلى قدرٍ من الظلم، بسبب هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي. وفي ظلّ تقاعس، وعجز القوى الأخرى الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.
أكثر من ثمانين قراراً منع «الفيتو» الأميركي صدورها عن مجلس الأمن سواء كانت تنطوي على انتقاد لدولة الاحتلال، أو إنصاف للحقوق الفلسطينية.
آخر ما ورد، «فيتو» أميركي، يُبطل مشروع قرار، بمنح فلسطين مقعداً كاملاً في الأمم المتحدة.
وحدها الولايات المتحدة وقفت ضدّ ثلاثة عشر عضواً صوّتوا لصالح القرار، بينما امتنعت بريطانيا وسويسرا عن التصويت عليه.
يفضح «الفيتو» الأميركي كلّ ادّعاءات الإدارة الأميركية، بشأن حق الشعب الفلسطيني في الحصول على دولة ذات سيادة، باعتبار ذلك الضمانة الأفضل لأمن إسرائيل، وتحقيق الاستقرار والسلم في منطقة الشرق الأوسط، الذي يشكّل كلّ الوقت بؤرة توتّر، قابلة للانفجار والتوسُّع، بما يهدّد الأمن الدولي.
تدّعي الإدارة الأميركية، أنّ انضمام فلسطين بعضويةٍ كاملة للأمم المتحدة من شأنه أن يشكّل خطراً على المساعي الدبلوماسية التي ترى الإدارة أنّها الطريقة الوحيدة لتحقيق «حل الدولتين»، وتتجاهل أنّ فلسطين تسعى لتحقيق ذلك، بوسائل دبلوماسية وسياسية طالما أنّها تلجأ للقانون الدولي.
حين يُرحّل جو بايدن موضوع «حل الدولتين»، وتمكين فلسطين من الحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، فهو إنّما يتهرّب من تبعات واستحقاقات، على إدارته أن تنهض بها، وأنّ التأجيل في ضوء الانتخابات الرئاسية الأميركية، من شأنه أن يُبقي هذا الملفّ تتقاذفه الإدارات المتعاقبة، وتدفعه نحو زمنٍ غير محدّد.
بايدن لا يريد ولا يستطيع إغضاب إسرائيل، وحكومتها المتطرّفة، التي ساهمت في عزلة الولايات المتحدة، وتهدّد سياساتها وحروبها بتهديد المصالح الأميركية في المنطقة.
طلبات ووعود إدارة بايدن، بشأن كيفية إدارة الحرب الدموية الجارية في قطاع غزّة وكذلك في الضفة الغربية والقدس، هذه الطلبات كلّها ذهبت في دهاليز الألعاب التي يديرها بنيامين نتنياهو و»عصابة حربه»، وفي كلّ مرّة، تختلف الإدارة مع نتنياهو تعود وتركض خلفه.
الحرب الإجرامية على الشعب الفلسطيني، أحدثت انتفاضة عالمية كبرى، والكثير من الدول التي اصطفّت خلف إسرائيل، باتت تواجه ضغوطاً شديدة لوقف تصدير الأسلحة، ومنها من اتخذ إجراءات بهذا الخصوص، لكنّ الإدارة الأميركية، لا تزال تفتح خزائنها، ومخازنها، لضخ المزيد من الأسلحة والذخائر المحرّمة دولياً، والأموال للصرف على حربٍ فاشلة.
لا أملك معطيات مؤكّدة لكنّني أجزم أن دولة الاحتلال خلال حربها الهمجية الجارية قد تلقّت من الذخائر والأسلحة، والدعم ما يفوق كلّ ما قدّمته الولايات المتحدة وحلفاؤها لإسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973.
ستّة وعشرون مليار دولار، هذه هي الموازنة التي وافقت عليها أغلبية أعضاء مجلس النواب الأميركي لصالح إسرائيل، فيما ينتظر بايدن التوقيع على الصفقة.
وبالرغم من كلّ هذا الدعم الهائل منذ بداية العدوان إلّا أنّ دولة الاحتلال ما زالت تحصد الفشل، فكيف لو أنّها لم تتلقَ كلّ هذا الدعم والمساعدات؟
بعد طول انتظار وتواطؤ، تتّخذ الإدارة الأميركية عقوبات بحقّ أربعة مستوطنين بسبب نشاطاتهم الإرهابية في الضفة، وفي حدث يُعتبر سابقة تاريخية تنوي الخارجية الأميركية، اتّخاذ عقوبات بحقّ منظمة «لاهافا» الإرهابية وكتيبة «نيتسح يهودا» المتطرّفة التابعة لجيش الاحتلال.
إسرائيل اعتبرت هذه العقوبات خطوة قوية جداً من الإدارة الأميركية.
إيتمار بن غفير المعروف بتطرُّفه الشديد كان أكثر أدباً من نتنياهو، ذلك أنّه اعتبر العقوبات، خطّاً أحمر، لكنّ نتنياهو اعتبرها ذروة العبث والانحطاط الأخلاقي.
ليس علينا أن نتوقّع من بايدن وإدارته الردّ على الإهانة التي يوجّها نتنياهو وفريقه، فلقد سبق لنتنياهو أن وجّه الكثير من الإهانات لإدارة باراك أوباما، وحين كان بايدن نائباً له.
يطرح هذا الأمر أسئلة كثيرة حول من يقود من، خصوصاً فيما يتعلّق بملفّ الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، غير أنّ الأهمّ هو أن على من لا يزال يراهن على وعود من الإدارة الأميركية، أن يُعيد النظر بعد كلّ تلك الوعود، والخطابات المنافقة، التي تنسفها السياسات الأميركية، التي تديرها منظومة الظلم العالمي.
«الفيتو» الأميركي الأخير وضع ختماً بالشمع الأحمر على أيّ دور أميركي إيجابي.