على ما بدت عليه الأمور من خلال الزيارة التي قام بها إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، فإنّ المؤشّرات على انتقال قيادة الحركة في الخارج إلى تركيا باتت مطروحة على نطاق واسع ومُعلن.
هل هرعت قيادة «حماس» إلى العاصمة التركية أنقرة سريعاً لكي لا تُجبَر على الذهاب للإقامة في العاصمة المصرية القاهرة، وحتى لا تكون هذه الإقامة بالذات عنصراً إضافياً من عناصر الضغط عليها باتجاه الموافقة على شروط لوقف إطلاق النار أقلّ من الشروط التي ما زالت تتمسّك بها الحركة حتى الآن؟!
وما الذي «أجبر» الدولة القطرية على الوصول إلى ما يشبه الدعوة لمغادرة قيادة «حماس»، والبحث عن مقرّ جديد لها؟ إذا صحّت كلّ هذه الأخبار.
لكي تستقيم الأمور، وفي محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة المتشابكة والمتقاطعة لا بدّ من الاستهلال بـ»قطر»، وذلك لأنّ من هناك بدأت الحكاية كلّها على ما يبدو.
وهنا، أيضاً، علينا أن نبدأ بالسؤال «المشروع» الآتي:
لماذا انقلب بنيامين نتنياهو على قطر؟ ولماذا سخّر كلّ آلته الإعلامية، وكلّ قدراته وعلاقاته في الولايات المتحدة للضغط على قطر، والتشكيك في أهليتها للاستمرار في دور الوسيط، بل اتهامها بصورة مباشرة باحتضان ليس فقط قيادة «حماس»، وإنّما احتضان شروطها لوقف إطلاق النار بكلّ تفاصيلها.
هذا الانقلاب في موقف نتنياهو ليس سوى خدعة لجأ إليها ليقول من خلالها إنّه لا يتحمّل مسؤولية إعاقة الوصول إلى صفقة التبادل، وقد ذهب إلى الساحة الأميركية ليقول هذا، لأنّ ثمة من في هذه الساحة بالذات من بات على قناعة بأنّه هو شخصياً من يتحمّل الإعاقة الحقيقية للوصول إلى تلك الصفقة، ويبدو أنّ قطر هنا استشعرت ما يمسّ مكانتها.
وهذه الخديعة هي محاولة لاستباق التحقيق حول مسؤولية نتنياهو عن نتائج الحرب الدموية على قطاع غزّة، وحول مسؤوليته قبل الحرب عن وقوعها حين «أكّد» أنّ «حماس» لا تشكّل أيّ تهديد لإسرائيل، وأنّ التهديد يأتي من احتمالات انفجار شامل في الضفة الغربية، إضافة إلى التهديد «الدائم» من إيران، ومن «حزب الله» على جبهة جنوب لبنان.
وهي خديعة لأن «اغتيال» قيادات «حماس» سيكون أمراً صعباً في قطر طالما أنّ الدور القطري كوسيط ما زال مستمراً، ومن الصعب، إن لم نقل من المستحيل على إسرائيل الإقدام على أعمال اغتيال على الأراضي القطرية دون موافقة أميركية، وطالما أنّ نتنياهو يعرف استحالة موافقة الولايات المتحدة على مثل هذه الاغتيالات، ويبدو أنّ هذه الاغتيالات قادمة لا محالة.
ناهيكم عن أنّ نتنياهو قد أظهر أعلى درجات الضعف في مواجهة الضربة الإيرانية إلى درجة أن يصف «اليمين» الفاشي في إسرائيل هذا الضعف بالمسخرة السياسية، وأراد نتنياهو أن يُظهر من خلال الضغط على قطر العلاقة الخاصة نسبياً بينها وإيران بأنّها تأتي في سياق حربه على إيران، وعلى «حماس».
فضّلت قطر على ما يبدو أن تنسحب من أمام هذه الضغوط، خصوصاً أنّ اللوبيات التي يقودها نتنياهو في الولايات المتحدة قد تمكّنت من إيصال هذه الضغوط إلى نقاط حساسة تتعلّق بدورها «الإقليمي»، ومستقبل هذا الدور بعد أن كانت المقاول الرئيس لعلاقات الولايات المتحدة بالحركات الإسلاموية على مدى عقدين من الزمان على أقلّ تقدير، ليس على مستوى الحركات «السنّية» فقط، وإنّما «الشيعية»، أيضاً، كما كان عليه الأمر أيّام [شهر العسل] الذي كان يربط قطر بـ»حزب الله» أثناء حرب تمُّوز 2006، وبإيران أثناء الأزمة القطرية مع بعض بلدان الخليج.
خلصت قطر إلى هذه النتيجة لأنها على ما يبدو وجدت أن تركيا باتت تستطيع الدخول على خطّ «إيواء» قيادة «حماس» فيها، خصوصاً أنّ تركيا بعد الانتخابات الأخيرة للسلطات المحلية والخسارات التي مُني بها «حزب العدالة والتنمية» باتت تُحتمّ على رجب طيّب أردوغان استدارة جديدة في صُلبها تغيير انطباع جماهير الحزب من أنّ تركيا ذاهبة باتجاه استعادة دورها على هذا الصعيد.
صحيح أنّ موقف «حزب العدالة والتنمية» ظلّ مستهجناً على مدى شهور الحرب الإجرامية الطويلة على غزّة، وصحيح أنّ موقف أردوغان قد تعرّض لانتقادات حادّة من قطاعات عربية وإسلامية واسعة، إلّا أنّ سبب الخسارات أكبر من هذا السبب بكثير، وخصوصاً الأوضاع الاقتصادية، والسياسات المالية المتعثّرة، وكذلك الاستدارات التي بدت مباغتة في بعض اللحظات والمراحل، ولم تتّسم سياساته الخارجية بالثبات المطلوب والانتقالات المرنة المدروسة.
نتنياهو فتح معركة مع قطر التي موّلت «حماس» بموافقته وإشرافه المباشر، لأنّ معركة من هذا النوع أرادها أن تكون الحجر الذي يصطاد به عدة عصافير، علّها تساعده في الخروج من حالة الاختناق التي يراها تدهمه، وتدهم الدائرة التي تحيط به شخصياً.
وغداً سيفتح معركة جديدة مع أيّ دولة تدعم فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع وفي الضفة، وفي أيّ مكان، لأنّه بات دون إنجازات تُذكر، ودون أيّ آفاق، وبات يهدم كلّ شيء دون أن يتمكّن من أن يبني أيّ شيءٍ سوى ما يطيل استمراره في الحكم.
لقد تمكّن بصورة تبعث على الدهشة من جهة، وعلى «الإعجاب» من جهة أخرى من أن يتلاعب بالمعادلة الداخلية الإسرائيلية حتى الآن، وأن يُبقي الشارع الإسرائيلي المؤيّد له متماسكاً في ظروف كانت كفيلة بإسقاط عشر حكومات في ظروف مختلفة عن ظروف تحكّمه بهذه المعادلة.
حجم الخراب الذي أحدثه نتنياهو في بنية النظام السياسي، وفي بنية المجتمع، وفي مسائل الأمن القومي، وفي مجالات إستراتيجية كبيرة، بما فيها سمعة دولة الاحتلال وعزلتها، وفي تحوّلها إلى دولة همجية في نظر غالبية شعوب الأرض، وفي تعريض اقتصادها لخسائر فادحة، وفي تراجع دورها الوظيفي والإقليمي، وتردّي قدرتها الردعية، وتهلهل جيشها وسقوط نظريات تفوّق هذا الجيش.. حجم هذا الخراب في هذه المجالات يكفي لسقوط أيّ حكومة في إسرائيل، لكنّه لم يكن كافياً لإسقاط حكومة الخراب الشامل بقيادة نتنياهو حتى الآن.
إذا كان نتنياهو قد استطاع حتى الآن أن يظلّ على رأس حكومته الفاشية بعد كلّ هذا الخراب، فإنّه لن يتردّد في خوض أيّ معركة، مهما كانت، وضدّ أيّ دولة أو حكومة بما في ذلك دول الإقليم، وصولاً إلى «أولياء نعمته» في «الغرب» نفسه، لأنّ «اليمين» الذي يكوّن هذه الحكومة التي يترأسها نتنياهو قد أسّس لنفسه الحاضنة التي تحميه وتدافع عنه بعد أن أصبح الشارع الإسرائيلي منقاداً من ثقافة هذا «اليمين»، وبعد أن انتصر هذا «اليمين» في معركة الوعي الإسرائيلي أكثر بكثير من انتصاره في الانتخابات.
أقصد أنّ حجم «اليمين» في الوعي الإسرائيلي أكبر من ضِعف حجمه الانتخابي، ولهذا فهو لا يحتاج في الواقع سوى للحجم العددي المطلوب للبقاء في الحكم، لأنّ الحجم المطلوب لإسقاطه في الوعي الإسرائيلي أصعب من إسقاطه في الصندوق الانتخابي، وبما لا يُقاس.
ولهذا فإنّ البلطجة التي يمارسها، والابتزاز الذي يمارسه على كلّ من يقف أمامه مردّه الخراب الأكبر الذي فاق كلّ أنواع الخراب الذي تسبّب به نتنياهو، و»اليمين» الجديد في إسرائيل، ألا وهو الخراب في الوعي الإسرائيلي.
الشارع الإسرائيلي الذي بات مقتنعاً بإسقاطه بسبب هذا الحجم الهائل من الخراب هو نفسه الذي يتنكّر لحقوق الشعب الفلسطيني، وهو نفسه الذي ما زال يرى في كفاح هذا الشعب الإرهاب بعينه، وهو نفسه الذي يرى في كلّ من ينتقد كيانه بأنّه «لا سامي»، وهو نفسه الذي يرى في التحكّم والسيطرة بالشعب الفلسطيني قانوناً طبيعياً نابعاً من «طبيعة» الأشياء، وأكثرية علمانيي إسرائيل هم أنفسهم الذين يعتبرون «التفوُّق» الإسرائيلي شأناً طبيعياً، حتى أنّ هؤلاء بالذات لا يرون في الأساطير المؤسّسة لدولة الاحتلال ما يعيب علمانيتهم في أيّ شيءٍ على الإطلاق.
ومن يعتقد من العرب والعجم على حد سواء أنّه خارج دائرة استهداف هذا النمط من الوعي السائد في إسرائيل سيُصدم إن لم يكن اليوم، فغداً على كلّ حال.
ومن يعتقد من العرب تحديداً أنّ بإمكانه تأييد حق الشعب الفلسطيني بالتحرُّر الوطني، وإقامة علاقة «طبيعية» مع إسرائيل سيرتطم رأسه بالحائط من هول الصدمة التي سيتعرض لها عندما «يكتشف» هذه الحقيقة.
وطالما أنّ هناك قيادات وأحزاباً توهم الإسرائيليين بأنّهم «متفوّقون»، وأنّهم أصحاب الحق، وليسوا حالة استعمارية، وأنّهم يدافعون عن «حقوقهم» بالوجود، وعن أنفسهم ضدّ من يهدّدون هذا الوجود.. طالما أنّ الوعي الإسرائيلي لم يخرج من هذه الدائرة الجهنمية المجنونة فإنّ بقاء نتنياهو سواء بشخصه أو بنمط الوعي الذي يمثّله لن يغيّر في الواقع كثيراً.
نرجو ألا يكون القطريون قد صُدموا، ونرجو للإخوة الأتراك ألا يُصدموا بقدر الصدمة القطرية، كما صُدم الذين من قبلهم، وأن يدرك العرب كلّهم أنّ إسرائيل كلّها تعيش حالة الصدمة التي لا تقلّ عن صدمة العرب مع فارقٍ واحد، وهو أنّ الوعي الإسرائيلي لن يعمّر طويلاً، في حين أنّ الوعي العربي ما زال في مرحلة المراهقة.