قد تبدو النظرة إلى مستقبل المنطقة في اليوم التالي للحرب على قطاع غزة سابقة لأوانها، وخصوصاً في ظل عدم وضوح الرؤية، والتباس الصورة، واحتمال تمدّد العمليات القتالية، سواء على مستوى الجغرافيا أو الفترة الزمنية إلى أوسع مما هي عليه اليوم، إذ إن احتمالات توقف الحرب بصورة مستدامة في المدى المنظور تبدو غير واقعية لأسباب كثيرة، ربما أشرنا إلى بعضها في مقالات سابقة، وربما نشير إلى أخرى إذا سمحت الظروف في أوقات لاحقة.
لكن، بما ان لكل بداية نهاية، ولم يحدث من قبلُ أن استمرت أحداث معينة إلى أجَل غير مسمّى، فإن ما يشهده قطاع غزة ومساحات أخرى في المنطقة من قتال بين المقاومة الفلسطينية وحلفائها من جهة، وبين "جيش" العدو الصهيوني، مدعوماً بقوى الشر في العالم من جهة أخرى، سيصل إلى خواتيمه في يوم من الأيام، بغض النظر عما إذا كان ذلك اليوم قريباً أو بعيداً، وبغض النظر أيضاً عن النتائج التي ستترتب على هذه الحرب القاسية والصعبة، والتي سينتج منها، من دون أدنى شك، تداعيات ستُلقي ظلالها على كثير من التفاصيل في المنطقة والإقليم، وستترك ندوباً واضحة في جسد المنطقة، التي ستبقى تعاني آثار تلك الحرب أعواماً طويلة.
من أهم مميزات المعركة، التي تُخاض حالياً بصورة أساسية في قطاع غزة؛ ذلك القطاع الصغير جنوبي فلسطين المحتلة، والذي لا تتجاوز مساحته 365 كلم2، ولا يمتلك كثيراً من المزايا الاستراتيجية التي تساعد أهله على القتال، نتيجة صِغر مساحته، واستواء أرضه، وعدم امتلاكه موانع ومعوّقات طبيعية كالجبال والهضاب والوديان العميقة وغيرها، بالإضافة إلى الحصار الذي يتعرّض له منذ أكثر من سبعة عشر عاماً؛ من أهم مميزات المعركة ظهور التحالفات الإقليمية والعالمية بصورة واضح وجلية، ومن دون أي استتار خلف عناوين مموّهة، أو أسماء مستعارة، أو أقنعة قد تُخفي كثيراً من معالم بعض الوجوه، كما كان يحدث في فترات سابقة.
في الحرب الطاحنة التي تجري في قطاع غزة، منذ سبعة أشهر تقريباً، والتي لم يكن أحد يتوقّع حدوثها بهذا الحجم أو النوع أو التوقيت، وما نتج منها من تداعيات سياسية واقتصادية في الدرجة الأولى، إلى جانب تداعياتها العسكرية المباشرة وغير المباشرة، برزت إلى العلن التحالفات الإقليمية في صورتها الحقيقية، من دون أي مواربة، وأعلنت نفسها، على رغم محاولة بعض أطرافها إخفاء انحيازه إلى هذا الطرف أو ذاك، خوفاً على مصالحه، وفي بعض الأحيان على استقرار نظام حكمه، كما هي الحال في بعض الدول العربية والإسلامية التي انحازت إلى حلف العدوان، وشاركت في الأفعال، وليس الأقوال، في دعمه، عسكرياً واقتصادياً.
منذ أعوام طوال تشهد المنطقتان العربية والإسلامية تجاذبات بين محورين مهمين، أحدهما تقف على رأسه الولايات المتحدة الأميركية، القوة الأكبر في العالم، والتي تفرض سطوتها على الجميع بقوة الحديد والنار أحياناً، وبقوة خزينتها المليئة بالأوراق الخضراء أحياناً أخرى، والتي تستخدمها سيفاً مصلتاً على رقاب الأنظمة الفاسدة، والشعوب الفقيرة.
انضم إلى هذا المحور كثير من الدول العربية والإسلامية، والتي وقفت على رأس منظومة الحكم فيها حكومات فاسدة، اضطهدت شعوبها، ونهبت مقدّرات دولها، ورهنت نفسها للمستعمر الأجنبي حفاظا على كراسيّها التي اهتزت في كثير من المرات، نتيجة الثورات الشعبية التي تم الالتفاف على معظمها، وتفريغها من مضمونها، وتحويلها إلى ثورات خاوية لم تنتج سوى أنظمة فاسدة أخرى، وإن كانت تحمل أسماءً ووجوهاً مغايرة.
المحور الثاني، والذي كان يُنظر إليه في فترة ما على أنه فقير اقتصادياً، بفعل الحصار والتضييق، ومتواضع عسكرياً، نتيجة افتقاده الأسلحة الحديثة، والخبرات العميقة، وقفت على رأسه الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي، منذ الثورة الإسلامية قبل أكثر من 45 عاماً تقريباً ضد نظام الشاه، أعلنت بصورة واضحة انحيازها لمصلحة قضايا المظلومين والمضطهَدين في المنطقة والعالم، وعلى رأس تلك القضايا وفي صدارتها القضية الفلسطينية، التي شكّلت على الدوام عنواناً بارزاً للسياسة الخارجية الإيرانية، التي بذلت جهوداً كبيرة ومستدامة لدعم الشعب الفلسطيني، وأفردت له مساحة واسعة من إمكاناتها المالية، وقدراتها العسكرية، وعلاقاتها الديبلوماسية، على رغم ما تعرضّت له من ضغوط، وما عانته وما زالت من حصار.
هذا المحور، الذي بات يُطلق عليه "محور المقاومة"، أو الممانعة، وفي بعض الأحيان يمكن ان نسمّيه "حلف المقاومة"، انحاز إليه مجموعة أقل من الدول، ولا نبالغ إذا قلنا إن الدولة السورية هي الوحيدة التي حسمت خيارها بالانضمام إليه بصورة واضحة ومعلنة، بينما سائر أعضائه من الجماعات والتنظيمات المقاتلة، أو في أحسن الأحوال جزء من التركيبة السياسية لبلد ما، كما هي الحال في لبنان والعراق واليمن، والتي تشهد انقسامات عميقة، ولا يوجد موقف جامع سواء بين مكوناتها السياسية، أو حكوماتها الرسمية، بشأن حسم مسألة الانضمام إلى محور المقاومة بصورة واضحة ومُعلَنة.
بالإضافة إلى الأطراف سابقة الذكر، تأتي المقاومة الفلسطينية طرفاً أساسياً في محور المقاومة، وإن كانت، في بعض الفترات السابقة، شهدت فتوراً في العلاقة بين بعض الفصائل الفلسطينية وسائر أطراف المحور نتيجة الأحداث في سوريا واليمن، على سبيل المثال، إلا أن هذه الحال تغيّرت خلال الفترة الأخيرة تحديداً، ولاسيما بعد انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، والتي أعادت ترتيب كثير من تفاصيل الصورة التي كانت ناقصة، ورمّمت كثيراً مما علق في الأذهان من تباينات واختلافات باتت الآن خلف ظهر هذا المحور، في كل مكوّناته وجبهاته.
في الحرب على غزة، كان واضحاً حجم الجهود السياسية والاقتصادية والعسكرية، والتي بذلها كلا المحورين لدعم حليفيهما اللذين خاضا معركة كسر عظم، بحيث ألقت أميركا "العظمى" كل ثِقلها، سياسياً وعسكرياً، من أجل منع سقوط حليفتها الاستراتيجية "إسرائيل "، التي دخلت في حالة من عدم السيطرة والإرباك والفراغ بعيد السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، بحيث انضم إلى هذا الجهد لاحقاً بريطانيا "الصغرى"، وألمانيا، وفرنسا، وآخرون من عرب وعجم، في محاولة لمنع سقوط "الدولة العبرية"، ومساعدتها من اجل استعادة توازنها، وترميم صورة ردعها التي انهارت تماماً تحت أقدام أبطال المقاومة البواسل عند تخوم غزة.
في المقابل، ونتيجة الجهد الكبير الذي بذله محور الشر للقضاء على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وما قام به العدو الصهيوني، مدعوماً بكل صنوف الأسلحة الحديثة والمحرّمة دولياً، من حرب إبادة ضد سكّان القطاع، قام محور المقاومة بفتح جبهات مساندة ودعم للمقاومة في غزة، شتّت من خلالها القوة النارية الضاربة للكيان الصهيوني، وفرّق ألويته المقاتلة ومنعها من تركيز جهدها ضد القطاع الصغير والمحاصَر من خلال الجبهة الشمالية مع لبنان، وشاغل بصورة لم تكن متوقعة القوات الأميركية في المنطقة من خلال فتح جبهة البحر الأحمر، والتي تركت آثاراً مباشرة في سير المعركة على رغم ابتعادها إلى مسافة 2000 كلم تقريباً عن الأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى ساحتي العراق وسوريا، واللتين كان لهما نصيب وافر من عمليات المشاغلة والإسناد، سواء ضد القواعد العسكرية الإسرائيلية، من خلال الطيران المسيّر والصواريخ الباليستية، أو من خلال استهداف القواعد الأميركية في سوريا والعراق.
بالإضافة إلى كل ذلك، كان الدعم الإيراني اللامحدود، والذي يمكن الحديث عنه في كتابات لاحقة حتى نستطيع الإشارة إليه من كل جوانبه، والتي وقف على رأسها الدعم، سياسياً وعسكرياً ومالياً، لكل الجبهات التي تبذل جهداً استثنائياً في معركة الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم.
وحتى لا نتعمّق كثيراً في تفاصيل ما جرى، والدور الذي قام به كِلا المحورين في التأثير في مجريات معركة غزة، إذ إن كثيراً من تلك التفاصيل بات معلوماً للجميع، بينما أخرى في حاجة إلى بعض الوقت للكشف عنها نظراً إلى حساسيّتها، دعونا نقفز خطوة أو خطوتين إلى الأمام لنتوقّع شكل تلك التحالفات في اليوم التالي لانتهاء الحرب على غزة، والتي ستترك، من دون أدنى شك، نتائج مباشرة على حجم تلك الأحلاف ونوعها، أسوة بكل الأحداث الكبيرة على مستوى العالم، والتي تركت على الدوام نتائج غيّرت تموضعات كثير من الأطراف، وصنعت معادلات كانت غير مُتوقعة في كثير من الأحيان.
على الرغم من أن حلف الشر، بزعامة أميركا، يبدو متماسكاً وقوياً، ويملك إمكانات هائلة، سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي، بالإضافة إلى مظلة الحماية القانونية التي تمنع اعتماد أي قرارات تدين "إسرائيل"، أو تفرّغها من مضمونها في معظم الأوقات، وعلى الرغم من أن دولاً وممالك كانت تتحاشى حسم انحيازها إلى هذا المحور، وإظهار دورها العملياتي تحديدا في تنفيذ نشاطاته في كثير من المراحل، وفي عدد من جغرافيا الإقليم، مثل الأردن الرسمي مثلاً، والذي ظهر بوجه سافر على خلاف ما ادّعي دائماً، فإن مستقبل هذا الحلف لا يبدو مبشّراً، نتيجة عوامل كثيرة قد يراها البعض حاسمة، ولاسيما مع الانكفاءة الأميركية الواضحة في كثير من ساحات المنطقة.
صحيح أن الجهد القتالي لهذا المحور أثبت كفاءة، إلى حدّ ما، في أثناء التصدّي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي استهدفت العمق الصهيوني قبل أسبوعين تقريباً، والتي عدّتها "إسرائيل" في حينه نجاحاً باهراً للمحور الإقليمي المساند لها، والمدافع عنها، وصحيح ان جهوده الاستخبارية والمعلوماتية ساهمت في تنفيذ عدد من العمليات النوعية في الساحتين العراقية والسورية تحديداً، ولاسيما عمليات الاغتيال التي طالت قيادات من الحرس الثوري الإيراني وقوى المقاومة العراقية، إلا أن هذا المحور يحوي كثيراً من المشكلات، ويفتقد كثيراً من مقوّمات البقاء، ولاسيما أنه يعتمد على القوة الأميركية، التي تبدو في طريقها إلى الأفول، وهي التي تعاني عدداً من الأزمات الداخلية والخارجية، ولديها من أسباب السقوط والتفكّك ما يجعلها غير قادرة على المحافظة على تموضعاتها في مناطق بعيدة جداً عن عمقها الاستراتيجي الآمن.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى ملاحظة مهمة قد يراها البعض غير واقعية، وهي أن كثيرين من المنضوين تحت إطار هذا المحور باتوا يرغبون في التفلّت من التزاماتهم تجاهه، وهم يدركون جيداً أن توابع هذا الانحياز ربما تكون كارثية على دولهم، أو بصورة أدق على عروشهم وقصورهم. وهذا الأمر ظهر جلياً في إعلان تركيا وقف كل تعاملاتها الاقتصادية والتجارية مع الكيان الصهيوني، بعد هزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات البلدية الأخيرة نتيجة موقفه بشأن الحرب على غزة، ولاسيما على صعيد الدعم الذي تم تقديمه إلى "دولة" العدو، عسكرياً واقتصادياً، أو الموقف الإماراتي الخاص بحركة القوات الأميركية، انطلاقاً من القواعد العسكرية الموجودة في الأراضي الإماراتية.
هذه الحال لا تنطبق في أي حال من الأحوال على المحور المقابل، إذ إن محور المقاومة والممانعة، والذي أثبت كفاءة عالية في التعامل مع نتائج المعركة الحالية وآثارها، ونجح، على رغم قلة إمكاناته وموارده العسكرية والاقتصادية، وضعف تأثيره، سياسياً وقانونياً، في المؤسسات الدولية، في فرض أجنداته على كل تفاصيل المعركة، سواء بفضل المشاركة المباشرة من خلال جبهات الإسناد والدعم، أو من خلال توفير مظلة دعم سياسية وقانونية ومالية وإعلامية، ساهمت جميعها في فضح عنجهية "الدولة الصهيونية" وجيشها المجرم، واظهرت دول العدوان على حقيقتها أمام الرأي العام العالمي، وتعدّت ذلك إلى عدم تمكين العدو من تحقيق كل أهدافه المعلنة، على رغم ما استخدمه من إمكانات هائلة، وما تلقاه من دعم في كل المجالات من حلفائه وداعميه، كان كفيلاً بإسقاط دول كبيرة، وممالك عظيمة.
الدور، الذي قام به محور المقاومة، والذي أثبت من خلاله كفاءة قلّ نظيرها، ووضعه في قائمة أبرز المحاور ذات القدرات العملياتية المؤثرة على مستوى العالم، يخوّله في مقبل الأيام أن يكون المحور الأقوى في المنطقة، وخصوصاً أن الجميع بات يدرك أنه محور صادق وأمين، يقف إلى جانب قضايا الأمة المحقّة والعادلة، بعيداً عن البحث عن مكاسب ومغانم آنية فانية، وأنه لا يتخلّى عن حلفائه وأنصاره مهما كانت التحدّيات، ومهما ازدادت الصعوبات.
في اعتقادنا أن الفترة التي ستلي الحرب على غزة، والتي ستنجح فيها المقاومة وحلفاؤها من دون أدني شك في تحقيق الجزء الأكبر من مطالبهم المحقّة والمشروعة، على رغم حجم الدمار الهائل الذي لحق بغزة وأهلها، ستشهد ولادة جديدة لمحور المقاومة، بحيث يصبح أكثر قوة ومنعة وثباتاً، مسقطا في طريقه كل محاولات الإقصاء والتهميش، وفارضاً شروطه على كل أعدائه القريبين والبعيدين.
في المقابل، نرى أن مستقبل حلف الشر والإجرام سيكون مظلماً ومعتماً، على رغم محاولات أتباعه، وهم كُثر، إظهار الأمر على غير حقيقته، إذ إن أطراف هذا الحلف الغرباء سيغادرون المنطقة، عاجلاً أو آجلاً، لأنهم ليسوا أصحاب الأرض الحقيقيين، ولا يملكون فيها من الإرث الحضاري ما يمكّنهم من البقاء والاستمرار. أمّا أولئك العبيد، من أنظمة وحكّام عرب ومسلمين، فمصيرهم سيكون كمن سبقهم من البغاة والظلمة إلى مزابل التاريخ، غير مأسوف عليهم، تلاحقهم اللعنات والشتائم إلى قبورهم القريبة، أو منافيهم البعيدة.
قد يجادل البعض فيما نقوله، معتمداً على توازنات القوى الحالية، أو متأثراً ببروباغندا الإعلام الموجهة، والتي تخلق موجات من الرأي العام يصعب التصدّي لها أو مجابهتها، نتيجة اختلال الإمكانات، أو نقص المقدّرات، إلا أن سنن الكون تقول عكس ذلك، إذ إن مصير كل التحالفات الشريرة عبر التاريخ كان السقوط والاندثار، مهما امتلكت من إمكانات، ومهما حازت من قدرات، في مقابل انتصار محور الخير والشرف، الذي يملك من مقوّمات البقاء والاستمرار، بحسب كل المعطيات، ما يؤهله لقيادة المنطقة في المرحلة المقبلة، أو على أقل تقدير منع حلف الأعداء من تنفيذ مخططاته، وفرض أجنداته، التي يُفرد لها إمكانات كبيرة وقُدرات هائلة.