لم نكن نسمع لا بماسلو ولا بهرم الحاجات، حين كنا صغاراً "نقرأ" في الكروم، والطرقات الترابية السهلة مجيئاً وذهاباً، مكتفين إن تحركت معدتنا طلباً للطعام بقطف حبة برقوق في طريقها إلى النضوج أو بحبات لوز، أو ما كنا نطلق عليه من أسماء محاكاة لأسماء الخضار الورقية، مثل الخس البريّ، ولعلنا نفرد مرة سردية عن تلك النباتات البرية التي كنا نأكلها ربيعاً قبل بدء ثمار الأشجار المثمرة.
كنا نقرأ، بمعنى كنا نتذاكر ما تعلمناه في المدرسة، لأجل الإعداد للامتحانات، خاصة الربعية والنصفية وآخر العام. وهكذا فقد فهمت ما كنت أسمعه في الدراما المصرية "زاكر يا ابني، زاكري يا بنتي"، على طريقة المصريين (بنطق الذال زين). وهكذا فقد كنا، الأطفال القرويون، "نذاكر" دروسنا زاهدين بالطعام، متشوقين لبلوغ الدرجات العليا، التي كانت تسعدنا، وما زلنا نحب الرقم 9، لأنه رقم الامتياز.
كنا أبناء 6 سنوات، حين دخلنا الصف الأول في أيلول 1973، فلم يكن قد مضى على هزيمة حرب العام 1967 إلا 6 سنوات، هي سنوات عمرنا، فنجن الجيل الذي ولد في الحرب، بعدها بأسابيع مثلي، وقبلها بأسابيع مثل آخرين، حتى بلغ التندر بيننا تنمر من ولدوا قبل الحرب بأنهم عاشوا أياماً أو أسابيع أحراراً، دون احتلال.
ولعل تلك السنوات تحمل شجناً ومشاعر متنوعة تتعلق بتلك السنوات، احتلال وصراعات وفتن ورحيل عبد الناصر، لكن ما سمعناه صغاراً عن حرب الكرامة شجعنا ومدنا بالأمل، كذلك حرب أكتوبر 1973، التي كنا نسمع عنها من خلال راديو والدي الكبير العريق، وفقط كنا نرى طائرات العدو تروح وتجيء فوق ملعب قرية بيت دقّو والقدس والبلاد تاركة خلفها أبخرة شبهناها بالغيوم.
التعليم والحرب، لا يعني فقط أثناء الحرب، بل ما بعده لسنوات قد تطول كثيراً بسبب تأثيرها في التكوين النفسي للأطفال، وبالنسبة لجيلنا موالد 1967، ومن قبلنا ومن بعدنا، وصولاً لأطفالنا وأحفادنا، فإن الحرب علينا لم تقف يوماً، ولم تنقطع حتى في ظل السنوات الأولى التي أعقبت اتفاقية أوسلو؛ فقد عشنا أهم مرحلة من زيادة التوسع الاستيطاني وتهويد القدس.
لعلنا ننتبه إلى أن معلمي فلسطين ولبنان اليوم، هم ممن كانوا تلامذة صغاراً في سنوات الحرب وما بعدها؛ فكل اعتداء على البشر والشجر والأرض حرب؛ فليست الحرب في فلسطين المحتلة حرب طائرات ودبابات، بل حرب القوانين الكاذبة المزورة، وكل نوايا التخطيط لنفينا عن وطننا عبر حشرنا في مساحات محددة للتوسع العمراني الطبيعي في الضفة الغربية، خصوصاً في القدس المحتلة.
لذلك يجيء حديثنا عن التعليم وسط الإبادة التي يمر عليها عام، دون أن ننسى فصول التهجير ونكبة العام 1948، وكيف حافظ اللاجئون الفلسطينيون على التعليم مستمراً، حتى غدا المتعلمون معلمين ومعلمات كثراً ورائعين في الدول العربية، والذين ما زلنا نقرأ عنهم من تقدير لمهنيتهم وجديتهم، التي اختبرها أطفال خيام وزينكو؛ فكأنهم في اللاوعي يخشون عليهم مستقبلاً دون إعداد. إنه التزامهم القومي والوجودي فما أروعه من التزام!
أكتوبر، السابع منه 2023!
تاريخ له ما بعده وما قبله.
يمر عام على حرب الإبادة على قطاع غزة، فلم يستسلم الشعب ولم يرفع الراية البيضاء، وتحمل ما يمكن تحمله، ولعل ما يلفت النظر في ظل نقص الطعام والماء والدواء والمأوى بل والهواء النقي، تواصل الناس هناك مع العالم؛ فقد ظل للكلمة واللون والنغم مكان، وما زال الجيل الجديد، الأطفال منه، يقبلون على المعرفة، بل ووصل الأمر بمن يملك (التابلت أو الآيباد) إلى حضور الحصص الافتراضية، فقد دخل عشرات الآلاف إلى التعلم عن بعد، ولو توفرت أجهزة كافية وإنترنت لدخل معظم الطلبة في قطاع غزة.
من تعرّف على ما تسمى الحاجات الإنسانية في هرم ماسلو، سيجد طبقات الحاجات، من تأمين الحاجات الأساسية انتهاء بالحاجات المعنوية، لكن حين نتأمل واقع اللاجئين الفلسطينيين على مدار 76 عاماً، بشكل خاص، وواقع شعبنا بشكل عام، سيجد أن الفلسطيني العادي لم يكن لينسى حقوقه وطموحاته في العيش ملبياً حاجاته الإنسانية والقومية والثقافية عبر دولة خاصة به، فلا يعني شبع المعدة الكثير له، لأن الكثيرين/ات عاشوا وعشن بنصف معدة أو أقل، لكن أبداً لم يعيشوا بنصف طموح!
وهذا ما تجلى خلال عام حرب الإبادة.
رغم كل ما ينقص حياة الغزيين، فقد ظل هناك ميول للتحرر والمعرفة والثقافة والفنون، بمعنى أن الغزيين والغزّيات لم ينشغلوا بالمعدة، بل ظل الفكر مستيقظاً، وظل شعور الكرامة والحلم بإنهاء الاحتلال موجوداً، بل ومقاومته.
وهذا ما يختلف عن نظرية ماسلو، التي وضعت ترتيباً للحاجات، جعلت حاجة المعنى والذات والثقافة أقل أولوية لدى البشر.
تتمثل حاجات الإنسان وفقاً لنظرية ماسلو في خمس مراتب هرمية، بدءاً من الحاجات الفسيولوجية الأساسية مثل الطعام والشراب والمأوى، مروراً بالحاجة للأمن والانتماء، ثم حاجات التقدير والاحترام، ووصولاً إلى حاجات تحقيق الذات. ولا يستطيع الفرد إشباع الحاجات الأعلى إلا بعد إشباع الحاجات الأدنى.
وإذا فكرنا بالنظرية على ضوء واقع فلسطين المحتلة، فسنجد أنه على مدار عقود من السنوات لم تنطبق إلا بشكل جزئي.
وعليه فإن "فكرة أن للإنسان حاجات أساسية يسعى لإشباعها، وأن إشباع الحاجات الأدنى يمهد الطريق لإشباع الحاجات الأعلى"، ليس صواباً تماماً.
وضع العالم ماسلو الأميركي نظريته التي عدت من أهم نظريات علم النفس في الأربعينيات، ولو قدر له الحياة طويلاً، ليرى الفصول التي مرّ بها شعب فلسطين، فإنه سيحدث تعديلاً، ليضيف "أن لنظريته استثناءات مثل حالة الشعب الفلسطيني الذي لربما قلب هرمه (هرم ماسلو) أو جعل كل الحاجات متشابهة".
بالطبع فإن الاستئناف الطبيعي لحياة شعبنا، وحياته التعليمية والثقافية، ستبدأ فعلاً بوقف الحرب حسب أماكن التجمعات الفلسطينية في غزة، من مدارس سالمة ومدارس تحتاج ترميماً، إلى خيام، وما ينبغي توفيره من مواد تعليمية للمدارس، ومواد إلكترونية وإنترنت مجانيّ، لمن لا يجدون مكاناً للتعلم، ثم لتمضي أعمال إعادة العمران من جديد، لخلق فضاءات عادية للشعب الفلسطيني هناك.
الآن، يلتقط أطفال فلسطين أي فرصة لمواصلة التعلم، ولعل الفرصة الكبرى للتعلم هي الفرصة الإنسانية والفلسفية، حيث سيجد العالم ذات نهار أن طلبة غزة قد أكملوا التعليم المدرسي والجامعي، بل صاروا فلاسفة وخبراء جراء ما حدث معهم وما عايشوه من حيوات ساهمت في زيادة الخبرات والعمر.
كبر أطفال غزة الصغار صاروا كباراً يعلموننا، وليس هذا جديداً، فقد خاطبهم نزار قباني قبل أربعة عقود:
يا تلاميذ غزة علّمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا
علّمونا بأن نكون رجالاً فلدينا الرجال صاروا عجينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونا
علّمونا فن التشبث بالأرض
من شقوق الأرض الخراب
طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر"
....
والآن، يواصل من تبقى من أطفالنا الحياة، وتلك معجزة العلم والأدب.
أما علامة الامتحان، فقد صارت 10 على عشرة، وليس 9 فقط.