- سلسلة غارات إسرائيلية متتالية تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت
كانت العادة السّائدة لدى العائلات الفقيرة في قطاع غزّة، أن تقوم الأمّ بتهديد الأطفال المشاغبين، بأن تضع في أفواههم «قرن فلفل» غزّاوي حارّ جدّاً، وكانت أحياناً تفعل ذلك في سياق فهم تربوي ردعي للأطفال.
الشعبان الفلسطيني واللبناني وصلا إلى مرحلة تتجاوز التهديد إلى وضع الفلفل الغزّاوي الحارّ جدّاً في أفواه حلفاء وجناة حرب الإبادة الإسرائيليين، وثلّة ممّن تصطكّ ركبُهم من المحبطين والمشكّكين، والمتلاعبين بآلام الشعبين الشقيقين، ومن الشامتين وروّاد الأفكار الطائفية سواء أكانوا فلسطينيين أم عرباً.
في الذكرى السنوية الأولى من بدء «طوفان الأقصى»، تبادل طرفا المقاومة الفلسطينية واللبنانية، تقديم رسائل ساخنة لكلّ هؤلاء، حين فاجأت المقاومة الفلسطينية من غزّة الجميع بإطلاق الصواريخ على تل أبيب، ومحيط القطاع، تزامنت مع توسيع دائرة إطلاق الصواريخ من لبنان إلى حيفا وعكّا، وتل أبيب وبكثافة غير مسبوقة.
لا بدّ أنّ جواب المقاومة كان مفاجئاً وصاعقاً على الادّعاءات الإسرائيلية المتكرّرة، بأنّ جيش الاحتلال نجح في تدمير قدراتها في غزّة، وقضى على الهرم التنظيمي والعسكري، وعلى 50% من قدرات «حزب الله».
مرّة أُخرى يعلن نتنياهو تغيير أهداف الحرب، بعد الفشل الذريع في كسر إرادة المقاومة، واستعادة أسراه، وتأمين عودة المستوطنين إلى مساكنهم في المستوطنات الحدودية لجنوب لبنان، والقضاء على التهديدات من غزّة ولبنان.
يتحدّث نتنياهو عن مرحلة النهوض، وتغيير خارطة الشرق الأوسط، في إطار ما يعتبره حرب البقاء، وتحقيق الأحلام التوسّعية في مساحة جغرافية واسعة محيطة بفلسطين، وتحقيق الهيمنة الاستعمارية على المنطقة.
كالطاووس يتصرّف نتنياهو، بعد أن حقّق جيشه الفاشي إنجازات تكتيكية من خلال الاغتيالات، التي ذهب ضحيّتها حسن نصر الله، وعدد ليس قليلاً من قيادات الحزب وكوادره بدءاً بفؤاد شكر، مروراً بمجزرة «البيجر» وما تلاها.
لم يتأخّر نتنياهو كثيراً في إصدار أوامر التحرّك البرّي نحو جنوب لبنان، حيث حشد أربع فرق عسكرية، مضى أكثر من أسبوع على بدايته، لكن الفرق الأربع لم تنجح في تحقيق اختراق جدّي، يتجاوز عشرات الأمتار يواجه خلالها مقاومة عنيدة، قوية، ألحقت بجنوده الكثير من القتلى والجرحى.
من الشرق إلى الغرب حيث سواحل «المتوسّط»، يحاول جيش الاحتلال العثور على ثغرة ضعيفة، ليندفع خلالها إلى العمق اللبناني، تحت غطاءٍ كثيف من القصف الجوّي والمدفعي، ولكن دون طائل حتى اللحظة.
لقد تفوّق جيش الاحتلال جوّاً، في غياب أسلحة الدفاع الجوّي، لكن سلاح الجوّ لا يُحقّق الانتصار، وإنّما يُحقّق التدمير والقتل بالجملة والمفرّق، ويبقى تحقيق الانتصار، أو مواجهة الهزيمة مرهوناً بحركة القوات البرّية.
هكذا فعل في القطاع، وفشل في السيطرة، بدليل أنّه يعاود الكرّة تلو الأخرى، بشنّ حملات برّية على مناطق سبق أن أعلن أنّه أحكم سيطرته عليها، مرّةً في خان يونس، وأخرى في رفح، وكذلك في شمال غزّة، وفي كلّ عودة، تتصدّى له المقاومة، وكأنّها في يومها الأول، وتوقِع في صفوفه المزيد من الخسائر، في الجنود والآليات.
الشيء ذاته يفعله في لبنان، حيث يواصل حرب الإبادة والتدمير، التي تستهدف المدنيين، والبُنى التحتية، والمستشفيات، وفرق الدفاع المدني، وإجبار المدنيين على إخلاء بيوتهم والنزوح، ومحاولة فرض حصار على لبنان من خلال قصف المعابر الحدودية مع سورية، وقصف قوافل المساعدات من البرّ والجوّ.
منذ بداية الحرب العدوانية، تساءل الكثيرون سواء من المؤيّدين للمقاومة، أو من المشكّكين واليائسين، إزاء مشاركة الحزب، حيث اعتقد هؤلاء أنّ الحزب سيلقي بكلّ ما لديه من إمكانيات هائلة في المعركة، وأن لا يكتفي بالمشاركة تحت شعار الإسناد، وضمن قواعد اشتباك محدودة.
لقد ساهم سلوك الحزب، في إثارة الشكوك، بشأن مدى جدّية وجدوى «محور المقاومة»، وبدا وكأنّ أطراف هذا «المحور»، قد تركوا المقاومة الفلسطينية وغزّة تواجه مصيرها.
وقد عزّزت طريقة التعامل الإيراني مع الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها دولة الاحتلال هذه الشكوك، بما في ذلك اغتيال الشهيد إسماعيل هنية، حيث وصف البعض الردّ الإيراني في نيسان بأنّه مسرحية، وتبادل أدوار مع الدولة العبرية وحلفائها.
برأينا أنّ سلوك الحزب الذي انخرط في الردّ منذ اليوم الثاني لـ»الطوفان»، قد كان ضمن إستراتيجية مدروسة بعناية، تقوم على بضعة محاور:
المحور الأوّل، يقوم على رؤية للإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، التي تعتمد الحروب العدوانية السريعة والخاطفة، واستخدم القوّة المفرطة، لإلحاق الهزيمة الساحقة بالمقاومة وداعميها.
وتعتمد هذه الرؤية على أنّ دولة الاحتلال لا تستطيع تحمّل حرب استنزاف طويلة الأمد، ستكون لها تأثيرات وتفاعلات جذرية على الاقتصاد الإسرائيلي، وعلى البنية الاجتماعية والسياسية والاستثمارية للإسرائيليين، حين يفقدون الحدّ الأدنى من الأمن والثقة بحكومتهم وجيشهم، الذي فقد القدرة على الردع.
وفق هذه الإستراتيجية، ثمّة محاولة استدراج لجيش الاحتلال نحو الحرب البرّية، التي تشكل له مقتلاً، بالإضافة إلى تحقيق المفاجأة، باستخدام أسلحة متطوّرة وفاعلة وبكثافة أكبر، بعد أن يعتقد جيش الفاشية أنّه نجح في تحييد تلك الأسلحة التي لم يستخدم منها حتى الآن إلّا القليل.
المحور الثاني، إن «حزب الله» أراد أن يُجنّب لبنان خسائر فادحة ودماراً واسعاً، بحيث يتحمّل هو وحده، نتائج انخراطه في الحرب، وبما لا يترك لدى الدولة اللبنانية، والمعارضة الداخلية فرصة تحميله المسؤولية عمّا سيقع من دمار.
هذه الرؤية، تسعى لضمان سلامة البيئة الداخلية الداعمة للمقاومة، وتجنّب الصراعات الداخلية، وإقناع المجتمع الدولي والداعمين لدولة الاحتلال، بمسؤولية الأخيرة عن التداعيات المرتقبة نتيجة استمرار الحرب.
صَبَرَ الحزب طويلاً، حتى استنزف القدرة على الصبر، بعد أن وافق على المبادرة الأميركية الفرنسية المدعومة دولياً، بشأن هدنة الأسابيع الثلاثة والتي قصفتها دولة الاحتلال، بدايةً باغتيال نصر الله وعدد من رفاقه.
هكذا نجح الحزب في تحقيق توافق لبناني وطني، وأخرس كلّ الأصوات المعارضة، كما أنّه أحدث شرخاً في جدار التحالف الدولي، حيث خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليدعو إلى وقف شحن الأسلحة لدولة الاحتلال، وعمّق الخلاف بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو الفاشية.
المحور الثالث، ثمّة قراءة سليمة وعميقة لدى الحزب بشأن أبعاد هذه الحرب، والاعتماد على أنّ نتنياهو لا يسعى إلى وقفها، ولا إلى الحلول السلمية، وأنّه يتلاعب بشركائه وحلفائه الدوليين، ويهدّد أمن الإقليم من دون أن يُراعي مصالح الحلفاء، وحتى الأنظمة العربية التي أخذت تدرك أكثر فأكثر، طبيعة الأهداف التي يعمل على تحقيقها، وتستهدف حلقة وراء أخرى المحيط العربي.
المحور الرابع، يشير سلوك الحزب إلى قدرٍ من الثقة بقدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود، ومواصلة القتال، وأنّ وقت التدخُّل الشامل والقوي لم ينفّذ بعد.
لقد دخل نتنياهو وحكومته وجيشه في الجحيم، حتى لم يعد ثمّة مجال للعودة حيث يبدو أنّه في مأزق حادّ، إذ يتردّد في الردّ على الضربة الإيرانية الأخيرة، فلا هو قادر على ضرب المنشآت النووية الإيرانية وحده، ولا على استهداف البنية النفطية نظراً لتداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي، فضلاً عن أنّه سيتحمّل المسؤولية عن ردّ إيراني على الرد، بما يؤشّر ذلك على توسيع دائرة صراع في الإقليم، لا ترى الولايات المتحدة لها مصلحة في ذلك.
وإذ لا تُبدي المقاومة الفلسطينية واللبنانية والحلفاء، أيّة إشارة إلى الضعف والتراجع فإنّ نتنياهو يقود «التايتانيك» الإسرائيلية للاصطدام في الجبل الجليدي، كما قال إيهود باراك، وكرّر آخرون ذات التوصيف.