- سلسلة غارات إسرائيلية متتالية تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت
رغم نقل إسرائيل لمركز ثقل حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة منذ أكثر من عام، إلى لبنان بجنوبه وضاحية عاصمته بيروت الجنوبية وبقاعه، إلا أنها ما زالت ترتكب مجازر الحرب التي توقع عشرات الشهداء ومئات الجرحى يوميا في قطاع غزة، إضافة بالطبع إلى القائمة التي تضم كل عناصر حرب الإبادة من التجويع والتعطيش، إلى منع الإغاثة والإسعاف، وحتى قتل ومنع الصحافيين والإعلام العالمي من تغطية وتوثيق جرائم الحرب، وذلك بهدف إفراغ شمال القطاع من سكانه، في تنفيذ لخطة الجنرالات، أو غيورا آيلاند، وفي مواجهة رفض السكان للطلب العسكري الصريح بالمغادرة إلى الجنوب، هدد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بمنع معونات الإغاثة من الوصول تماما إلى شمال قطاع غزة، وهذا يعني إضافة للقتل المتواصل، تجويع ما يقارب من 400 ألف إنسان حتى الموت، في تطهير عرقي صريح، وإبادة جماعية واضحة تماما.
وفي الوقت الذي لم تتوقف فيه إسرائيل عن ارتكاب المجازر الجماعية في وسط القطاع، هذا إضافة إلى بدئها تنفيذ خطة التهجير بحق نصف القطاع، متمثلا في شماله، أي من خط نتساريم إلى بيت حانون، قامت إسرائيل بتوسيع دائرة حرب الإبادة لتشمل لبنان، حيث ارتكبت جرائم الحرب بحق المدنيين، من تفخيخ أجهزة «بيجر» إلى تهجير قرى الجنوب اللبناني، واستهداف العمارات السكنية التي تؤوي عشرات العائلات، بحيث وقع أكثر من ألفي شهيد ونحو خمسة آلاف جريح، ولم تكمل حرب إسرائيل على لبنان شهرها الأول بعد.
وكما فعلت في غزة، ها هي تفعل في لبنان، فقد أطلقت العملية البرية، بعد قصف جوي متواصل لم يتوقف يوما واحدا، وشمل الضاحية الجنوبية لبيروت، وقرى الجنوب، بما في ذلك ارتكاب جرائم الحرب المثبتة، كما ظهر في عملية «البيجر» التي استهدفت المدنيين دون تمييز، وما كانت إسرائيل لتواصل حرب الإبادة، التي أعلنت كذلك بهذه الصفة، من قبل محكمة العدل الدولية في لاهاي، طوال عام كامل، ثم ما كانت لتنقل تلك الحرب إلى لبنان، لولا أمران، أولهما: صمت المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن والجمعية العامة، منذ منتصف العام الجاري، وذلك منذ أن اجتاحت إسرائيل مدينة رفح، ولولا مواصلة الدعم السياسي والعسكري والاستخباراتي متعدد الأشكال من قبل الولايات المتحدة.
ثم زاد الطين بلة، أن ازداد تأييد الداخل الإسرائيلي بمختلف ألوان الطيف السياسي، لتوسيع حرب الإبادة لتشمل إضافة إلى فلسطين بجناحيها: غزة والضفة، لبنان بجنوبه وضاحيته، وما زال الأمر مرجحا لتوسيع نطاق هذه الحرب، لتكون حربا إقليمية، ليس من المستبعد أن تتحول بعد سنوات قليلة، وعلى الأغلب فإنها ستستمر سنوات تحرق خلالها الشرق الأوسط، إلى أن تصبح حربا عالمية، أو على الأقل حربا تشارك فيها الأطراف الإقليمية بشكل مباشر، فيما تشارك الأطراف الدولية بالدعم العسكري والسياسي، بما يعيد العالم إلى أجواء الحرب الباردة السابقة وإلى حالة الانقسام الكوني.
والحقيقة أن إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، وبمؤازرة حكومة في غاية التطرف، وبوجود رئيس أميركي، دخل البيت الأبيض كرئيس محافظ، أو كرئيس وسطي بين الجمهوريين والديمقراطيين، وجدت أن الفرصة باتت سانحة لمداعبة أحلامها القديمة، خاصة تلك التي طالما داعبت أحلام اليمين «الجابوتنسكي» نسبة إلى «الملهم الأيديولوجي» للتطرف اليهودي/الإسرائيلي منذ ما قبل إقامة الدولة، والتي تتمركز حول فكرة أرض إسرائيل الكبرى، والتي لا مكان لدولة فلسطينية فيها، وهي تشمل، على أقل تقدير، كامل أرض فلسطين التاريخية أو الانتدابية، واستعراض مسار عام كامل من الحرب يؤكد بأن نتنياهو نجح رغم أنف المجتمع الدولي في الاستمرار بها، ورغم ما بدا من تردد لدى الإدارة الأميركية، حيث كان جو بايدن يتصرف وفق حساباته الانتخابية، حين كان مرشحا رئاسيا لولاية ثانية، ثم واصل سياسة التردد حرصا على مرشحة حزبه الديمقراطي ونائبته الحالية.
وقد كانت أصعب فترة بالنسبة لنتنياهو ليواصل الحرب، داخليا وخارجيا، في فصل الربيع، أي بعد أشهر من إطلاق الحرب، وإلى ما قبل اجتياح رفح، حيث كانت المعارضة الدولية والإقليمية للحرب على أشدها، حين كانت التظاهرات تجوب مدن العالم بأسره، وكانت المحاكم الدولية تنعقد، وتصدر قراراتها بوقف الحرب، كذلك كانت الأمم المتحدة بجمعيتها العمومية ومجلس أمنها، في حالة انعقاد متتابع، وكأنها تقف على قدم واحدة، كل ذلك كان مترافقا أيضا مع احتجاجات داخلية، من المعارضة السياسية، التي وصلت أوجها في حزيران بانسحاب بيني غانتس وحزبه من مجلس الحرب، وميدانيا من الشارع، لكن نتنياهو تجاوز تلك الفترة، وواصل الحرب، لكن وحيث أن انخفاض منسوب الرفض العالمي للحرب، دفع جبهات الإسناد إلى التصعيد الميداني، خاصة مع الفشل الأميركي المركب، بالتوصل إلى صفقة التبادل مع غزة، وبإغلاق جبهة اليمن بالقوة الأميركية، وجبهة لبنان بالدبلوماسية الأميركية، فكّر نتنياهو بتزويد الحرب بوقود جديد يزيد من اشتعالها.
كان ذلك هو قرار نقل مركز ثقل الحرب من غزة إلى لبنان دون وقفها، وكان من شأن ذلك القرار، أن حقق له، بعد انخفاض الرفض الدولي لحربه، تأييدا داخليا، كذلك أغلق تماما فجوة الخلاف مع واشنطن، التي أظهرت موافقتها لحربه على لبنان، لكن على الجبهة المقابلة، تزايدت احتمالات إشعال الحرب الإقليمية، والتي عمليا ترفضها أميركا وكل دول الشرق الأوسط، كذلك محور المقاومة بما فيه ايران، وفقط يريدها نتنياهو، شرط أن تتورط فيها أميركا بشكل مباشر، وفي المحصلة النهائية، يمكن القول، إن كل الأطراف حققت انتكاسات، ونجاحات تكتيكية، وفقط نجح نتنياهو ومعه غالانت في مواصلة الحرب، وفي تجاوز الإخفاق في تحقيق النجاحات العسكرية في غزة، بالنجاح في الاغتيالات، فيما نجحت أميركا في منع تحول الحرب إلى حرب إقليمية شاملة، طوال عام، أما المقاومة، فقد نجحت في إفشال أهداف التهجير من كل قطاع غزة، وسحق «حماس»، وفي جر إسرائيل لحرب استنزاف ليست معتادة عليها من قبل.
أما النجاح الأهم لنتنياهو فقد كان حفاظه على ائتلافه الحاكم، وها هو يصل إلى محطة الانتخابات الأميركية، كما كان يقدّر بعض المراقبين وهو يواصل الحرب، وكان ذلك قبل ستة أشهر يبدو أمرا صعبا، ولكل هذا، فإننا نقول، إن ما تبقى من أيام قليلة، هي أقل من ثلاثة أسابيع على الانتخابات الرئاسية الأميركية، إنما هي بمثابة وقت ميت سياسيا، يستحيل على بايدن مهما قدم من مغريات أن يقنع خلالها، نتنياهو الذي فشل في إقناعه طوال عام مضى، في وقف الحرب، مهما كانت طبيعة الصفقة أو التسوية، في غزة أو في لبنان، في كليهما معا، أو في واحدة منهما دون الأخرى، وجلّ ما تحاول واشنطن فعله خلال الأسابيع القادمة، هو احتواء سلسلة الرد والرد على الرد بين كل من إسرائيل وإيران، بما لا يضطرها إلى الزج بجنودها وقواتها في حرب تخوضها مباشرة في الشرق الأوسط ضد قوات متعددة في أكثر من موقع، حيث تنتشر قواعدها العسكرية.
لهذا فإن مستقبل الحرب في الشرق الأوسط، يبدو معلقا بنتيجة الانتخابات الأميركية، وهي غير محسومة بالطبع، فإن فاز بها دونالد ترامب، فإن أحدا لا يمكنه توقع ما سيفعله، وذلك يعود إلى صمته إزاء ذلك الملف، كذلك هو حال الجمهوريين عموما، باستثناء أن الجمهوريين يبدون أكثر سخاء سياسيا وماليا نحو إسرائيل، وفقط ترامب يعلن عن ضرورة إنهاء الحرب بسرعة، وهذا موقف غامض، فربما يقصد حسمها بالقوة، باستخدام قوة مفرطة أكثر، أو الدفع بقوة لصفقة سياسية تضع حدا لها، وربما يكون ذلك من خلال صفقة دولية مضمونها التضحية بأوكرانيا، مقابل فرض سيطرة إسرائيل على الشرق الأوسط، أما في حال فوز كامالا هاريس، فإن المنطق يقول، إنها ستكون أقرب إلى باراك أوباما منها إلى جو بايدن، وأنها قد تقود حالة التحول الداخلي بما يخص مراجعة العلاقة مع إسرائيل لجهة الانحياز للمصلحة الأميركية خاصة بما يخص الحفاظ على النظام العالمي الذي تقوده.