- سلسلة غارات إسرائيلية متتالية تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت
كان يلبس بدلة رياضية بلون زُرقة السماء المغطاة بضباب الغبار، لم تُغسل منذ مدة طويلة، حتى أن البنطلون كان لونه مختلفاً عن القميص، كان البرد شديداً، زخات المطر أرغمته على الهرولة، كان يحمل بين يديه كومة من القماش الأبيض، تلتصق به من الخلف امرأة تلبس ثوباً أسود طويلاً، وتغطي شعرها بغطاء أسود كثيف، هرب الاثنان إلى مكان احتمائي من زخات المطر، بعد أن خاضا في سيل المطر الذي كان يغطي الساقين، حذاء الرجل صندل قديم مهترئ، كنت أقف على عتبة باب بيت عال هرباً من السيل المرتفع، لم أتمكن من خوض السيل بسبب لونه الأسود، وهو خليط من المجاري وماء المطر، ليس هناك مخرج في المكان، لذلك احتُجزت في هذه المساحة الضيقة في انتظار أن يتوقف سقوط المطر، أو أن ينقص منسوب المياه السوداء، أو أن تمر عربة يمكنني أن أستقلها إلى مكان عال، كنت أحتمي من دفق المطر تحت بلكونة قديمة صغيرة بارزة كمظلة مستطيلة تقع فوق رأسي بالضبط، رأيت هذا الرجل وزوجته يتجهان نحو مكان وقوفي يهربان إلى المكان الضيق نفسه، أوسعت لهما المكان، وقفت على الطرف لأُفسح لهما المجال في مساحة لا تزيد على متر واحد لكي يتمكنا من الاحتماء، كان الرجل ينحني على اللفافة البيضاء التي يحملها بين ذراعيه، يحميها بصدره من زخات المطر، كنت مُجبراً أن أسمع حوارهما، على الرغم من أنني أدرت ظهري إليهما حتى يُحسا بأنني لا أسمعهما.
حاولت أن أنزع حذائي وأخوض طفح السيل الأسود لأتمكن من قطع الشارع للوصول إلى خيمة اللجوء، لكنني أُرغمت على البقاء بسبب كثافة المياه وسرعتها وتلوثها، ظللت محصورا في الزاوية الضيقة، وهي مدخل بيت يرتفع بمقدار متر عن مستوى النهر الجاري في الشارع، سمعتُ المرأة تقول: يا رب كيف سنصل إلى غرفة المدرسة التي نزحنا إليها!
قال زوجها بصوت خفيض: المهم من أين سنوفر الحليب للمولودة الجديدة؟ يا الله ما أصعب هذا اليوم وما أتعس حظ هذه المولودة! عندما ولدتِ ابننا الشهيد أحمد في مستشفى الشفاء منذ خمس سنوات، أوصلتُكِ بسيارة الجيب الخاصة بي، كانت ترافقك الشهيدتان أمك وأختك، وكذلك أختي وابنتها، كلهم اليوم شهداء تحت الأنقاض، كان شارع المستشفى جميلاً ونظيفاً، أمضيتِ يومين في المستشفى، كنا نوزع الطعام الشهي والمشويات على الممرضات والنساء بجوارك، أحضرتُ قبل خروجك من المستشفى بأقل من ساعة صينية كبيرة من حلوى البقلاوة من أشهر محلات الحلويات، وزعناها على كل الموجودين في جناح ولادتك، رجعنا أنا وأنت وطفلنا الجديد أحمد للبيت بسيارتي، التي حولها القصف إلى كومة من الحديد تحت حطام منزلنا، أما اليوم فقد وُلدت عزيزة قبل ساعة واحدة، واضطررنا للخروج من المستشفى بعد ولادتك بأقل من ساعة بسبب الزحام في غرفة الولادة الضيقة، لتغلق فيضانات المطر وماء المجاري طريقنا!
اختلست النظر إلى اللفافة التي يحملها بين يديه، لمحت بسرعه حركة في اللفافة البيضاء، أعدت النظر نحو مجرى السيل العالي وهو يرتفع ويكاد يصل إلى مكان وقوفنا!
أخرجتُ هاتفي من جيبي لأشعرهما بأنني لا أسمع حديثهما، غير أنني تذكرت بأن الاتصالات مقطوعة منذ ثلاثة أيام، أعدتُ هاتفي إلى جيبي، كنت أسمعها وهي تدعو وتقرأ بعض آيات من القرآن بصوت متهدج خفيض.
أشرت لسيارة نقل كانت تعبر المكان، طلبت من السائق أن يتوقف رأفة بالمرأة وزوجها الذي يحمل المولودة، لكنه لم يتوقف، اضطررت للبقاء في مكاني، أغلق سيل المطر والمجاري كل الطرق، لم أستطع الابتعاد عنهما، ليس هناك مخرج بديل، ظللتُ أنتظر توقف سقوط المطر الشديد وانحسار نهر المياه الملوثة ونقص منسوبها حتى أتمكن من الابتعاد عنهما، سمعت زوجها يقول: عندما سنصل إلى الغرفة المشتركة في مدرسة اللجوء سأبحث لكِ عن طعام، حتى يمنّ الله عليك بإرضاع الطفلة من صدرك، أنا أعلم بأنك لن تتمكني من إرضاعها، لكن قدرة الله هي الأقوى، كل ما تبقى معنا هو مائة وسبعون شيكلاً فقط لأربعة أفراد، كما أن حليب المواليد مفقودٌ، بالأمس حصلت على عشرين شيكلاً بعد أن عملت عند صاحب بسطة الحطب الكبيرة مدة ست ساعات، كنت أقطع جذور الشجر بشرخ قديم ومجموعة من الأزاميل، سيرزقنا الله برزق عزيزة!
قالت المرأة وهي تجهش بالبكاء: إنها إرادة الله، فبعد أن كنتَ تملك أحد أكبر محلات بيع المواد الغذائية والبهارات في السوق الكبيرة في غزة، ها نحن اليوم لا نملك ثمن وجبة طعام لعائلتنا، ولا نملك غرفة صغيرة، ودورة مياه!
قال بصوت حزين خفيض: كنتُ أهم مستوردي الحبوب والبهارات بكل أشكالها، أنا اليوم أتمنى أن أظل نائماً لأحلم بمفتاح بيتي ودكاني، أنا اليوم أعيش على أمل أن أعود لبيتي لألم أشلاء ابني من تحت الركام وأدفنه إلى جوار والدي، ربما استطعتُ أن أعثر على وجهه لأقبله قبل الدفن!
أخرجتُ محفظة نقودي من جيبي، لأمنحهما ما أستطيع الاستغناء عنه، غير أنني أعدت محفظتي إلى جيبي، لأنني خشيت أن أمسّ بكبريائهما أو أن أُتهم بأنني كنت أسمع حديثهما.
خفضتُ رأسي، أسدلت طاقيتي على طرف عيني، أغلقت جفنيَّ على فيض من الدموع لكنني لم أفلح في حبسها، تسربت الدموع إلى خديَّ، قررتُ أن أخوض غمار النهر الأسود حتى لا أسمع المزيد عن مأساتهما، رفعت بنطالي إلى ركبتي، نزعت حذائي، كنت أعلم أنني سوف أحتاج إلى حمام كامل أنا وملابسي عندما أقطع النهر المتجه نحو البحر، وهذه مهمة شاقة بسبب ندرة المياه، تركت المكان بعد أن خط الزوجان قصتهما في ذاكرتي في مخيم اللجوء وشماً أبدياً.