خاص: كتب مروان جودة
كانت ليلى، الأم ذات الخمسة وثلاثين عامًا، تعيش مع زوجها وأطفالها الثلاثة في بيت صغير بمخيم النصيرات، لم يكن بيتهم يحتوي على أكثر من غرفتين متواضعتين، لكنّ الدفء الذي سكن قلوبهم كان يكفي ليشعرهم بالسعادة رغم الحصار والألم.
في صباح يومٍ غائم، تصاعدت حدة الغارات، وكانت السماء فوق غزة تشتعل بالنيران والدخان. ضمّت ليلى أطفالها إلى صدرها، يوسف، 9 سنوات، وسعيد، 6 سنوات، وطفلتها الرضيعة، لين، التي لم تكمل عامها الأول بعد. كانت تحاول تهدئتهم بكلمات مليئة بالخوف المختبئ خلف حنانها.
"كل شيء سيكون بخير يا يوسف، أنا هنا، سأحميكم."
فجأةً، دوت صفارات الإنذار، ثم سُمِع صوت انفجارٍ هائل. قبل أن تدرك ما يجري، اهتزّ البيت من أساسه، وتحولت الجدران إلى شظايا، وانقضّ السقف بثقلٍ رهيب. لم تجد ليلى سوى ثوانٍ لتمد ذراعيها نحو أطفالها، تحاول تغطيتهم بجسدها.
حينما أفاقت، كانت الدنيا مظلمة تمامًا. تحسست بيديها المرتجفتين الحجارة حولها، وهي تصرخ بأسماء أطفالها. "يوسف! سعيد! لين!"
لم يصلها سوى صمتٍ خانق. حاولت أن تحرك جسدها، لكنها كانت محاصرة تحت الأنقاض، بالكاد تستطيع التنفس. ويدها اليسرى ما زالت تمسك بيد صغير... يد يوسف. كان جسده الصغير بلا حراك. حاولت تحريكه، لكن لم يكن هناك استجابة.
في تلك اللحظة، شعرت بشيء يتمزق في أعماقها. لم تقدر أن تبكي؛ فالدموع كانت ثقيلة كأنها أحجار هي الأخرى.
استمرت تنادي على سعيد ولين، لكن لا إجابة. كانت وحيدة في ظلام الأنقاض، عالقة بين الحجارة، ويدها ما زالت تمسك بيوسف.
مرت الساعات بطيئة كالعمر كله. كان صوتها قد بحّ من كثرة الصراخ. فكّرت: "أين هم؟ هل نجوْا؟ هل أحدهم ما زال على قيد الحياة؟"
وفجأة، سمعت صوت حفرٍ فوقها. إنها فرق الإنقاذ! شعرت ببارقة أمل، لكنها كانت مشوبة بالخوف: ماذا سيجدون حين يرفعون هذه الأنقاض؟
بعد عدة دقائق ثقيلة كدهر، انكشف جزء من الحطام، وأخرجها رجال الإنقاذ. خرجت ليلى تحمل ابنها يوسف بين ذراعيها، وقد عانقته للمرة الأخيرة في تلك اللحظات الحاسمة.
حين وقفت على قدميها، رأت ما لا تتحمله عين أو قلب. كان سعيد قد وجدوه بلا روح، وقد حاول الوصول إلى أخته لين التي كانت قد فارقت الحياة أيضًا.
سقطت ليلى على ركبتيها، تحمل يوسف بيد وتضع الأخرى على قلبها كأنها تحاول منع ألمها من تمزيق صدرها. بكت بكاءً مكتومًا، كأن صرخاتها لا تكفي لوصف الجرح الذي حل بها.
في جنازة أطفالها الثلاثة، وقفت بين الجموع، لكنها لم ترَ أحدًا. كانت تتحدث إلى قبورهم الصغيرة، هامسةً:
"سامحوني، يا حبيبي يوسف، يا صغيري سعيد، ويا نور عيني يا لين... لم أستطع حمايتكم. سامحوني..."
وبعد ذلك اليوم، أصبحت ليلى شخصًا آخر. باتت تجوب الشوارع المدمّرة، تبحث عن بقايا ذكريات أطفالها بين الأنقاض، قطعة لعبة هنا، أو كتاب ممزق هناك. كان كل ما تبقى منها هو صورة أم مفجوعة، تحمل في قلبها ألمًا لا ينطفئ، تعيش على حافة الجنون بانتظار لحظة لقاء جديدة... في عالم لا تطاله الحروب.