يسجل التاريخ لحظات الشعوب المفصلية التي تتطلع لإحداث التغيير بإرادة البقاء الوجودي لهذه الشعوب في مواجهة إحتلال يهدف إلى القضاء على الهوية الوجودية لها. والشعب الفلسطيني ومنذ ما يقارب قرن من الزمان وهو يواجه إحتلال عنصري إجرامي يحاول طمس هويته الوطنية والدينية والثقافية والتاريخية والجغرافية، إحتلال ضرب وتجاهل بشكل منهجي كافة القوانين والاتفاقيات والأعراف والمعاهدات الدولية.
إن الشعب الفلسطيني يواجه الاحتلال الصهيوني بكل آلته العسكرية وتحالفاته الدولية مع رعاته وشركاؤه وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تحولت من مجرد حليف إلى شريك متضامن مع الإحتلال الصهيوني، بقراراتها المرسخة للاحتلال والمعارضة للقانون والشرعية الدولية، والمتمثلة في الإعتراف بمدينة القدس كعاصمة لدولة الكيان الصهيوني، والإعتراف بيهودية الدولة، والتنكر لحق العودة للفلسطينيين، والاستهانة وعدم الإعتراف بكافة الحقوق الوطنية والسياسية والتاريخية والدينية والاقتصادية للشعب الفلسطيني من خلال تمرير ما يسمى بصفقة القرن، الأمر الذي وسع من دائرة التحدي للشعب الفلسطيني الذي يوجه الآن الدولة الصهيونية والولايات المتحدة بهيمنتها وسيطرتها على النظام الدولي، ونقل الصراع إلى مستويات تشكل تهديدا جديا على الوجود الفلسطيني نفسه.
منذ بداية الصراع مع المشروع الصهيوني والشعب الفلسطيني يخوض هذا الصراع بكافة مكوناته وكافة إمكانياته، مستحضرا إرادته وصلابة الحق التاريخي والقانوني في أرضه وترابه الوطني، إن طبيعة الصراع تحتم إن يكون الكل الفلسطيني حاضرا ومشاركا وفاعلا ولا مبرر لأي تقاعس أو تراجع. والمرأة الفلسطينية شكلت حضورها المركزي والأساس في الصراع مع الكيان الصهيوني، فلم تكتفي بدورها كحاضنة ومنشأة للأجيال لتجهيزهم للمشاركة في الصراع، لم تكتف بدورها كأم وأخت وزوجة للشهيد أو الأسير أو المناضل، ولكنها أصرت على تكون هي الشهيدة وهي الأسيرة وهي المناضلة لكي تسجل حضورا مذهلا في مسيرة الشعب الفلسطيني، حضورا شكل تكاملا مع الرجل الفلسطيني، فالمشهد الفلسطيني كان أكثر اكتمالا بحضور المرأة الفلسطينية التي سجلت الكثير من معالم البطولة والتضحية والتصدي للإحتلال، والمشاركة في النضال الفلسطيني بصبرها وقوة إحتمالها وتحملها المسئولية في غياب الزوج الشهيد أو الأسير. إن مشاركة المرأة الفلسطينية في الدفاع عن حقوق وهوية الشعب الفلسطيني كانت مستمرة طوال مراحل الصراع مع الكيان الصهيوني، ولعل الأرقام والإحصائيات التي تشير إلى عدد النساء الفلسطينيات الأسيرات لدى دولة الكيان الصهيوني، يحمل دلالة إلى القيمة الوطنية الكبرى للمرأة الفلسطينية في مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية. فحسب الإحصائيات عن موقع المعلومات الوطني الفلسطيني، على مدار سنوات الصراع الطويلة مع إسرائيل، تعرضت أكثر من 16.000 فلسطينية (بين مسنة وقاصر) للاعتقال في سجون الاحتلال الصهيوني. وفي مرحلة انتفاضة الحجارة 1987 وصل عدد النساء المعتقلات نحو 3000 فلسطينية. أما خلال انتفاضة الأقصى 2000 فقد وصل عدد حالات الاعتقال للنساء الفلسطينيات نحو 900. ومنذ الهبة الجماهيرية الفلسطينية نهاية عام 2015، وصولًا إلى المقاومة الشعبية عند إغلاق سلطات الاحتلال الإسرائيلي بوابات المسجد الأقصى المبارك في تموز/ يوليو 2017؛ ليصل عدد الأسيرات اللواتي تعرضن للاعتقال منذ بداية الهبة الجماهيرية، وحتى الأول من تشرين الأول 2017 إلى نحو 370 حالة اعتقال؛ وبلغت ذروة التصعيد في عمليات اعتقال الفلسطينيات على يد سلطات الاحتلال الصهيوني منذ اندلاع "هبة القدس" العاصمة الأبدية لفلسطين- بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المشؤوم في السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2017؛ واستمرت خلال عام 2018 والذي شهد ارتفاعًا في وتيرة اعتقال الفلسطينيات، وخاصة المرابطات في المسجد الأقصى، لتتواصل خلال العام 2019 حيث بلغ عدد الأسيرات رهن الاعتقال حتى تاريخ 12 أيار 2019 نحو 45 أسيرة.
إن الأرقام الواردة أعلاه لتؤشر على الحجم الكبير والمكانة الرفيعة للمرأة الفلسطينية في مسيرة النضال الفلسطيني، ومدى مساهمة المرأة الفلسطينية في صناعة اللحظة التاريخية الفارقة للشعب الفلسطيني، مساهمة أساس ومركزية تستنسخ نفسها، لتستمر وتتطور تضحية ومعاناة ومشاركة وعطاء في كل مراحل مسيرة الشعب الفلسطيني. إن المرأة الفلسطينية الأسيرة لهي عنوان بارز آخر لصلابة الشعب الفلسطيني ومواجهته لجلاديه، لقد تحملت المرأة الفلسطينية وتحدت السجان الصهيوني بكافة أساليبه الهمجية الإجرامية المستهدفة النيل من عزيمتها بممارسة أبشع أنواع التعذيب والتحقيق الجسدية والنفسية، وحرمانها من حقوقها الطبيعية والإنسانية دون مراعاة لكونها إمرأة تتصف بالضعف الجسدي، في انتهاك فاضح ووقح لكافة المواثيق والمعاهدات الدولية كاتفاقية جنييف الرابعة الداعية لعدم المساس بالنساء والشيوخ والأطفال من قبل كيان الإحتلال، وعدم جواز معاملة المطالبين بحقوقهم الوطنية والسياسية والقانونية والإنسانية كمجرمين ومحاكمتهم.
إلا أن هذا الاحتلال الصهيوني المجرم لا يقيم وزنا لا للقوانين ولا للإنسانية ويمارس أعتى أنواع التعذيب بحق الأسيرات والأسرى الفلسطينيين. هو احتلال يمارس جرائمه التي تخطت جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية متسلحا بعقيدة تلمودية فاسدة ومختلقة ومزورة في إطار شراكة وتحالف مع رأس النظام الدولي الذي لا يتسم بالتوازن والمتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم بمنحه الشرعية الباطلة في وجوده وفي كافة ممارساته اللاإنسانية أو القانونية. وتظل المرأة الفلسطينية الأسيرة درة تاج النضال الفلسطيني في كافة مراحله، حاضنة وراعية ورهان الأجيال الفلسطينية في استمرارية الوعي الفلسطيني بحقوقه التاريخية الأصيلة، التي لا تلغيها شرعية باطلة، ولا وهم تاريخي – ديني مزور، ولا قوة غاشمة وتحالفات وشراكة لا تقيم وزنا لشرائع ولا قوانين ولا أخلاق أو إنسانية.
إن الشعب الفلسطيني بمكوناته الوطنية وثقافته الثورية والنضالية يمتلك كافة الأدوات التي تمكنه من إدارة الصراع مع العدو الصهيوني انتزاعا لحقوقه الوطنية كاملة، تلك الحقوق التي لا تسقط بالتقادم ولا تنسى مهما حاول الاحتلال وشركاؤه من خلال ممارساتهم الإجرامية من طمس للحقائق وتغييب للوعي، فهذه الحقوق حاضرة في الذاكرة الفلسطينية تحوطها حاضنة وطنية، ترضعها حليب البقاء المرأة الفلسطينية التي انتصرت وما زالت تنتصر في نضالها في ساحات المواجهة أو في زنازين المعتقلات الصهيونية.