"تهريب النطف" و"زراعة الأنابيب": في البدء كانت فكرة مستغربة تُناقش بخجل وبصوت باهت بين أوساط عدد قليل من الأسرى وزوجاتهم، لتعكس معاناتهم الصامتة ورغبتهم الجامحة في تحدي السجان وتحقيق حلمهم بأن تُنجب نساؤهم أطفالاً لهم، يحملون أسماءهم من بعدهم. كان هذا أوائل تسعينيات القرن الماضي، وبقيت عالقة في أذهانهم مؤجلة التحقق لحين اتساع دائرة القبول وتوفر الظروف المناسبة وعوامل النجاح، ولم تسقط أبداً من حساباتهم وظلت حاضرة على أجندة طموحاتهم وجدول فعلهم وتجاربهم المتعددة، فحاولوا مرارا إلى أن باتت حقيقةً ملموسةً تسجل النجاح تلو الآخر، لتغدو اليوم ظاهرة آخذة بالاتساع وتحقق المزيد من الانتصارات رغم السجن وحكم المؤبد، وفقاً لشروط وإجراءات تتطابق مع الشريعة الإسلامية.
لقد سجل الأسير الفلسطيني "عمار الزبن" المحكوم بالسجن المؤبد (مدى الحياة)، نجاحا هو الأول في تلك المسيرة، المقرة دوليا والمجازة شرعاً، حينما نجح في تهريب "نطفة" لتُنجب زوجته طفلاً أسماه "مهند" وذلك في 13آب/أغسطس عام2012، لكنه لم يكن النجاح الأخير، حيث تلاه عشرات النجاحات والانتصارات لأسرى فلسطينيين ينتمون لتنظيمات فلسطينية متعددة ويقبعون في سجون متباعدة، وينحدرون من مناطق جغرافية مختلفة، حيث تعددت الأسماء وتنوعت الانتماءات الفكرية والحزبية، ليؤكدوا على أن قضيتهم موحدة ومعركتهم واحدة وحلمهم مشترك وثورتهم من أجل الحياة والوجود ما زالت مستمرة حتى خلف القضبان.
لقد عبرّت تلك الظاهرة عن هم إنساني عميق لدى الأسرى، ورغبة جامحة في تحدي السجان ومواجهة سياسة الطمس الإنساني، والتدمير الوجداني، الذي تمارسه سلطات الاحتلال بحقهم. فليس أقسى على الاحتلال من هذا التكاثر الفلسطيني، ومن استمرارية الحياة رغم تشديد الخناق المفروض عليهم. لذا لم يرق لسلطات الاحتلال هذا النجاح، الذي يُنظر له فلسطينياً على أنه انتصار، فأرادت إحباط الفكرة والقضاء على الظاهرة، فاتخذت إجراءات عقابية، فردية وجماعية، بحق الأسرى داخل السجون الذين يلجؤون الى هذا الخيار، كالعزل الانفرادي ومنع زيارة الأهل وفرض غرامات مالية وغيرها، فيما الأخطر اتخاذها إجراءات تعسفية وخطوات عنصرية وغير أخلاقية بحق الزوجات والأطفال المولودين من نطف مهربة لأسرى فلسطينيين والذين تعتبرهم ""أطفال غير شرعيين". ومع ذلك فالتحدي قائم والمعركة مستمرة والانتصارات تتكرر.
وخلال العام 2019 سجل (11) أسيراً فلسطينياً نجاحات في هذا الصدد وأنجبت نساؤهم (16) طفلاً، فيما سجل الأسير الفلسطيني "وليد دقة" النجاح الأول له وللحركة الأسيرة خلال العام الجاري، وذلك بعد تهريب نطفة إلى زوجته "سناء سلامة" التي أنجبت المولودة "ميلاد" في الثالث من شباط/فبراير الجاري، ليرتفع عدد الأسرى الذين حققوا نجاحا وسجلوا أسمائهم في تلك المسيرة الى (68) اسيرا وأُنجبت نساؤهم نحو (85) طفلا، وهؤلاء يُطلق عليهم "سفراء الحرية".
"ميلاد" هي الطفلة الجديدة التي أُنجبت عبر "النطف المهربة"، لكنها لن تكون الأخيرة، حيث أدرك الأسرى وبوعي كبير أن الحياة يجب أن تستمر، لذا تراهم يتعالون على قيدهم وألمهم، ويحاولون تناسي ما بهم من وخز القيد وقسوة السجان، ويفكرون دوما بابتداع أسباب للفرح. فتراهم يفكرون ويبدعون من أجل تحقيق الثبات وراحة الضمير، ويناضلون لانتزاع الانتصارات على سجانيهم، ومع كل انتصار جديد يفرحون ويتلقون جرعات جديدة من السعادة. هذا حالهم وتلك هي حياتهم. وتهريب النطف المنوية هي واحدة من المعارك التي خاضها الأسرى وحققوا فيها الانتصار رغم جدران السجن الشاهقة، وعيون السجان الحاقدة، والاجراءات الأمنية المشددة، وكاميرات المراقبة المعقدة.
والأسير الفلسطيني "وليد دقة" من باقة الغربية في المناطق المحتلة عام 1948 هو من آمن بالفكرة منذ نشأتها وكان مدافعا قويا وأكثر جرأة من غيره، وحاول ترجمتها مراراً ودون تردد إلى أن حقق النجاح وانتصر على السجن وقهر السجان وانتزع حقه وحقق حلمه المشروع حينما سجل نجاحا في تهريب "نطفة" لتُنجب زوجته في الثالث من شباط/فبراير الجاري مولودتهما البكر والتي أسموها "ميلاد". هذه الزوجة المناضلة "سناء سلامة" التي ارتبطت به منذ العام 1999، وربطت مصيرها معه، وهي كانت على يقين بأنها ستنتظره طويلاً، دون أن تسمح لهما ادارة السجون الإسرائيلية بالالتقاء أو بالخلوة الزوجية كما ينص عليه القانون الإسرائيلي.
ويعد الأسير "وليد دقة" المعتقل منذ الخامس والعشرين من آذار/مارس 1986 ويقضي حكما بالسجن (39) سنة، واحد من الأسرى القدامى المعتقلين منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو الذين رفضت "إسرائيل" الإفراج عنهم ضمن الافراجات السياسية وصفقات التبادل.
كما برز الأسير "وليد دقة" كمناضل مثقف وقيادي مؤثر وسياسي بارع وكاتب متميز، ولعله الأبرز من بين مَن كتبوا داخل السجون حول الحالة الفلسطينية، وكان الأكثر تميزا في وصفه لحال السجون وواقعها عبر رسائله المهرّبة من خلف القضبان، حيث يمتاز بقدرة إبداع فنية وأدبية عالية في رسم حياة الأسرى ويومياتهم خلف الشمس.
ولقد اختير اسم "ميلاد" تحقيقا لرسالة مؤثرة كتبها الأسير "وليد دقة" داخل سجنه عام2011 في الذكرى الخامسة والعشرين لاعتقاله، عبّر فيها عن حلمه بأن يكون أبا وهذا نصها:
أكتب لطفل لم يولد بعد..
أكتب لفكرة أو حلم بات يرهب السجان دون قصد أو علم، وقبل أن يتحقق..
أكتب لأي طفل كان أو طفلة..
أكتب لابني الذي لم يأت إلى الحياة بعد..
أكتب لميلاد المستقبل، فهكذا نريد أن نسميه/ نسميها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا...
عزيزي ميلاد،
اليوم، أنهي عامي الخامس والعشرين في السجن، تسعة آلاف ومئة وواحد وثلاثون يوما وربع (9131)... إنه الرقم الذي لا ينتهي عند حد.. إنه عمري الاعتقالي الذي لم ينته بعد... وها أنا قد بلغت الخمسين، وعمري قد انتصف بين السجن والحياة... والأيام قد قبضت على عنق الأيام.. كل يوم أمضيته في السجن يقلب "شقيقه" الذي أمضيته في الحياة، ككيس يحاول إفراغ ما تبقى به من ذاكرة... فالسجن كالنار يتغذى على حطام الذاكرة.. وذاكرتي، يا مهجة القلب، غدت هشيما وجف عودها... أهرّبها مدونة على ورق حتى لا تحترق بنار السجن والنسيان.. أما أنت، فأنت أجمل تهريب لذاكرتي... أنت رسالتي للمستقبل بعد أن امتصت الشهور رحيق أخوتها الشهور... والسنين تناصفت مع أخواتها السنين.
أتحسبني يا عزيزي قد جننت؟؟ أكتب لمخلوق لم يولد بعد؟
أيهما الجنون.. دولة نووية تحارب طفلا لم يولد بعد فتحسبه خطرا أمنيا، ويغدو حاضرا في تقاريرها الاستخبارية ومرافعاتها القضائية.. أم أن أحلم بطفل؟
أيهما الجنون.. أن أكتب رسالة لحلم أم أن يصبح الحلم ملفا في المخابرات؟
أنت يا عزيزي تملك الآن ملفا أمنيا في أرشيف الشاباك الإسرائيلي... فما رأيك؟
هل أكف عن حلمي؟
سأظل أحلم رغم مرارة الواقع...
وسأبحث عن معنى للحياة رغم ما فقدته منها...
هم ينبشون قبور الأجداد بحثاً عن أصالة موهومة...
ونحن نبحث عن مستقبل أفضل للأحفاد... لا شك آت...
سلام ميلاد... سلام عزيزي...