يعرب الكثيرون عن استيائهم من الحجر الصحي الذي بات ظاهرة عامة في العالم بسبب تفشي فيروس الكورونا الذي كان يسمى قديما الطاعون لكنه يختلف عنه في بعض الاعراض.
وكان الفقهاء واهل الحكم قديما في العصر الراشدي ثم الاموي يناقشون الحجر الصحي من منطلق الحديث النبوي الشريف اذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها واذا وقع بارض وانتم بها فلا تخرجوا منها، كوقاية منه و منع انتشاره.
وبالطبع كان بعض رجال الدين المسلمين والمسيحيين يرجعون انتشار الوباء الى الخروج عن الدين والشيطان ويحملون المرأة المسؤولية كما حدث في عصر المماليك عندما اجتاحت مصر موجة من الموت الجارف كما وصفه العرب والموت الاسود كما وصفه الاوروبيون وأرجعها بعض رجال الدين الى تفشي الزنا وخروج المرأة من بيتها وطالبوا بمنع المرأة من الخروج ليلا ونهارا واختلفوا حول هل يجب لكبيرات السن بالخروج ام لا ! وحسم السلطان المملوكي الأمر بحظر الخروج على المرأة مهما كان سنها، بدلا من التركيز على العلاج والحجر الصحي.
وجرت سجالات حول تفسير الحديث الشريف في العصرين الراشدي والاموي وما بعدهما ما بين ملتزم به او اعتباره رمزيا لكن الحديث واضح ولا يحتاج الى نقاش لأنه يدخل في صلب الحجر الصحي المعتمد علميا حاليا.
حدث اكبر وباء الذي اجتاح العالم في اواسط القرن الرابع عشر الميلادي وقضى على ثلث سكان اوروبا وغيرها من البلدان . وكان بعض رجال الدين ارجع ظهور الطاعون في عصر بني امية 15 مرة الى ظلمهم ولما تولى احد امراء بني العباس حكم الشام بعد سقوط ملك بني امية وقف خطيبا في الصلاة وقال لأهل الشام احمدوا الله لأنه رفع عنكم الطاعون منذ ولينا عليكم ،فرد عليه أحد المصلين ان الله اعدل من أن يجمعكم علينا والطاعون .
اتفق المؤرخون ان الطاعون الكبير في ذلك العصر مصدره الصين حيث نقلته الفئران والبراغيث الى جيش احفاد جنكيز خان الذين اجتاحوا وسط وغرب اسيا وشرق اوروبا ونقلته الفئران الى السفن عبر الموانيء في البحر المتوسط ومنها الى جنوة الايطالية حيث انتشر في اوروبا وشمال افريقيا بعد غرب ووسط اسيا.
ولعل المؤرخين والاطباء في الاندلس اكثر من تناول الطاعون في كتبهم مثل الوزير الشاعر لسان الدين بن الخطيب كما كتب عنه مؤرخون مصريون ، اما في جزيرة صقلية الايطالية فقد فر سكان مدينة مسينا وهي ميناء من المرض واستضافهم سكان مدينة كاتانيا فأنتشر المرض في المدينة الأخيرة وقضى على سكانها فصار الايطاليون لا يمدون يد المساعدة للفارين من المرض ولا يدخل الرهبان الى منازل المرضى لأخذ وصاياهم .
لكن الأعراض التي تحدث عنها المؤرخون عن المرض تشبه اعراض الكورونا الحالية باستثناء ان مريض الطاعون كان يبصق دما ويموت وهو ليس من اعراض المرض حاليا ، فكأن كورونا فيروس اليوم تكيف مع جسم الانسان وطور مناعته ، لكن بعض المؤرخين المصريين اشار الى ضيق التنفس لدى المصابين بالطاعون مثل الكورونا الحالية وقد وصف ابن حجر العسقلاني الأمراض الوبائية السابقة مقارنة بطاعون عصره فقال إنها لا تعدو أن تكون "قطرة في بحر أو نقطة في دائرة".
ويرفع بن خلدون هذا الحدث إلى مستوى الكارثة الكونية ويرسم لوحة سوداوية قاتمة بقوله: "وأما لهذا العهد وهو آخر السنة الثامنة (748هـ) فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدّلت بالجملة... هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المئة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيّف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، فخربت الأمصار، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به ما نزل بالمغرب.
ويصف المؤرخ المصري جمال الدين بن تغري ما حدث بالقاهرة فقال: " فكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف نفس إلى عشرين ألف نفسٍ في كلِّ يوم، وعملت الناس التوابيت والدّكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجرة، وحُمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحُفرت الحفائر وأُلقِيت فيها الموتى، فكانت الحفيرة يُدفن فيها الثلاثون والأربعون وأكثر، وكان الموتُ بالطّاعون، يبصقُ الإنسان دما ثمّ يصيح ويموت ". بمعنى ان المصريين لم يكونوا يمارسون الحجر الصحي .
وأرجع ابن خلدون الأوبئة الى فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة ، فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة.
ووضع لسان الدين بن الخطيب وغيره كتبا لهذا المرض حيث الف بن الخطيب كتاب مقنعة الجاهل في المرض الهائل ، ولم ينتبهوا كثيرا الى جدل رجال الدين حول الفرار من موقع المرض ام البقاء وذهبوا الى ضرورة الحجر الصحي وحرق كل ملابس ومقتنيات المرضى الخ من التدابير الوقائية المهمة. فالحجر الصحي هو اول واكبر اجراء وقائي من المرض قبل العلاج ، ولا نعلم لماذا يتذمر البعض منه.