الكوفية:حتى هذا الطير الصغير الجميل شعر ان الحرية لا تتجزأ، لا معنى للفضاء الرحب ما دام يضيق حول الاف الاسرى والاسيرات القابعين في سجون الاحتلال، لهذا قرر ذلك العصفور ان يضحي بحريته تضامنا مع الاسرى الذين ضحوا بحريتهم لأجل الكرامة والعدالة الانسانية، تسلل العصفور من بين الاسلاك والقضبان، تحايل على الجنود المسلحين الرابضين فوق ابراج السجن، دخل عبر فتحات السياج الذي يسقف ساحة السجن وحط فوق يد الاسير عاهد نصاصرة.
الأسير عاهد نصاصرة 37عاما، سكان قرية بيت فوريك قضاء نابلس، محكوم بالسجن 32 عاما امضى منها 17 عاماً داخل السجن، هرب فيلم فيديو يظهر فيه علاقته الحميمة بطير صغير دربه وعلمه واصبح صديقاً له، وشوهد وهو يطعم العصفور الذي تسلل اليه يسقيه ويطعمه من فمه.
العصفور حمل معه الاغاني والزقزقات وصوت الرياح ولون السحاب الى الاسرى، انكسر روتين السجن وجموده وسكونه، غرد العصفور بصوته الجميل للمحرومين من الحرية، وصفق بجناحيه للمقهورين كي تنهض الحياة وتتحرك من العزلة والعتمة.
العصفور الذي اصبح رفيقاً للاسير عاهد يزوره يوميا، لا يتأخر، يقترب بمنقاره من فم عاهد يتناول الطعام ويشرب الماء ويغني فرحا، موسيقى مختلفة في غرفة السجن، موسيقى في الساحة تستدعي مئات العصافير التي تحلق فوق ساحات السجن، قفز العصفور فوق كتف عاهد، فوق يديه، يلعب ويمرح مع سائر الاسرى، ينط فوق ابراشهم ويحلق فوق رؤوسهم، يقول لهم: لستم وحدكم، انا قادم اليكم من السماء، انا رسائلكم القادمات من الاحبة والاصدقاء.
العصفور الذي يتحايل على الحراس ويتكئ على الافق القادم من الموج المسافر في الغيوم، يشاطر الاسرى يومياتهم وهمومهم، يجلس معهم، يخبئ في ريشه بريد الارض والشمس وكلمات الاشجار واغاني البراري، العصفور يشارك الاسرى في معاركهم ونضالاتهم، في اشواقهم وحنينهم، يراقب صعود نفوسهم الطليقة الى الاعلى، اياديهم الممدودة دائما الى الامام وليس مكبلة الى الخلف، لكل اسير جناح، وكل اسير سيحلق يوماً، سوف يتحرك الهواء.
من عصفور الاسير عاهد نصاصرة الى روح الشهيد بائع الخردة المعاق حسين فتحي الرقب الذي اعدمه جنود الاحتلال على السياج الحدودي في قطاع غزة، كان حسين يجمع الخردة كعلب المشروبات الغازية الفارغة ويبيعها لينفق على اسرته الفقيرة البائسة.
يصطحب حسين عربته الى الحدود الشرقية ليجمع علب الالمنيوم وبقايا قنابل الغاز التي يطلقها جنود الاحتلال على المظاهرات السلمية ويعود بها الى المنزل ليبيعها لتجار الخردة، كان حسين يحلم ببناء منزل صغير بدل منزله الآيل للسقوط، لكن هذا الحلم توقف عندما عاد شهيداً في يوم جمعة بعد ان اعدمه قناص اسرائيلي بدم بارد.
عصفور عاهد نصاصرة رأى كيف قتل حسين المعاق الفقير دون ان يشكل خطراً على حياة الجنود، مثلما رأى ايضا كيف اعدم قناص اسرائيلي المعاق ابراهيم ابو ثريا مبتور القدمين، حمل العصفور حلم حسين وابراهيم وبنى عشه فوق الدم المنعوف في الرمل قرب السياج على الحدود، طار العصفور وقطف بمنقاره بعض الزهور والورود التي كان يزرعها حسين في فناء المنزل ووضعها على جثمانه الطاهر.
عصفور عاهد نصاصرة وجد ان الأسرى المسجونين والمحرومين من كل اسباب الحياة اكثر رحمة من القتلة و المجرمين الذين يطلقون الرصاص على الابرياء، جثث كثيرة سقطت، دفنتها الطائرات والصواريخ تحت ركام البيوت المدمرة، ضاق الفضاء يقول العصفور، الفضاء صار أقفاصاً، الفضاء صار مسلحا، ضاقت الارض، الارض منهوبة و مجروفة مسروقة تقام عليها آلاف المستوطنات، لم يعد هناك شجر لتبني العصافير فوقها اعشاشها وتربي فراخها، لا طعام ولا ماء، صوت الرصاص يلاحق العصفور الذي يلتجئ الى حضن عاهد نصاصرة الدافئ، هنا السكينة والامان والسلام.
من عصفور الاسير عاهد نصاصرة الى الفجر العظيم في القدس، الى الذين يقاومون الغزاة بالصلاة والدعاء، هو فجر الامل، الفجر المبين، فجر العبادة والدفاع عن القدس عاصمة فلسطين، الدفاع عن هويتها وتاريخها وعروبتها ومقدساتها الدينية، وعندما لاحق المحتلون والمتسوطنون المتطرفون المرابطين والمصلين في المساجد والكنائس، وشنوا حملات الاعتقال والابعادات والاقامات المنزلية، لاحقوا كعك ابو سنينة واغلقوا مخبزه وهو اشهر مخابز القدس القديمة بتهمة توزيع الكعك على المصلين خلال جمعة الفجر العظيم، هرب العصفور وطار بعيدا بعيدا حتى وصل السجن واختبأ في حضن الاسير عاهد نصاصرة، هنا الامل والارادة والصلاة الطليقة الدائمة.
من عصفور الاسير عاهد نصاصرة الى الشهيد محمد الناعم سكان قطاع غزة، الجرافة العسكرية الاسرائيلية قامت بالتنكيل بجثته وسحبها ورفعها فوق اسنان الجرافة في مشهد فظيع وبشع يشير الى مدى الانحطاط الخلقي والقانوني والسياسي لدولة الاحتلال، الشهيد محمد الناعم ظهر امام العالم كالمسيح المصلوب يشر دماً وعذاباً على يد وحوش آدمية يفترسون كل شئ، العصفور الذي رأى المشهد المرعب وصل الى الاسير عاهد في ذلك اليوم خائفا، كان يرتجف، نفض الغبار عن ريشه وعانق عاهد، قال له: سأبقى على راحتيك، أخشى الطيران بعد الآن.
من عصفور الاسير عاهد نصاصرة سمع الاسرى انشودة بيضاء بين الطفل صالح عاشور 16 سنة من مخيم النصيرات في غزة والذي فقد بصره جراء اطلاق قنبلة غاز عليه من قبل جندي اسرائيلي، وبين الطفل مالك عيسى 9 سنوات سكان القدس والذي فقد بصره بسبب رصاص المحتلين، انتفضت العيسوية كما انتفضت غزة، انتفض عصفور الاسير عاهد نصاصرة وهو يرسم الغياب فوق عينين مفقوءتين يسيل منهما البارود والنار، لقد اطفأوا العيون كي يكبر الاطفال في القيد والعتمة، لقد اطفأوا العيون كي لا يرى الاطفال الطريق الى المدرسة.
من عصفور الاسير عاهد نصاصرة في سجون الاحتلال الى الصياد الفلسطيني خضر الصعيدي من مخيم الشاطئ في غزة، فقأ جنود الاحتلال عينه اليمنى بعد اطلاق وابل من الرصاص عليه واعتقاله من على مركبه في بحر مدينة خانيونس، الصياد صار أعمى لا يرى البحر والسمك والشاطئ، لن اطير فوق البحر يا صديقي، قال العصفور لعاهد، الامواج ملغومة، الزوارق الاسرائيلية تصطاد العصافير في الهواء كما تصطاد الصيادين في البحر.
لاحق السجانون عصفور الاسير عاهد نصاصرة، العصفور خطر امني على دولة اسرائيل، أغلقوا الأبوب، احكموا السياج، اغلقوا كل الفتحات، نصبوا الكمائن، يجب ان لا يظهر الاسرى بمشاعر انسانية واخلاقية، انهم مجرمون ارهابيون وقتلة، الكابينت الاسرائيلي المصغر في اجتماعه الطارئ قرر تشديد الاجراءات على الاسرى، لا يجوز ان يتواصل الاسرى مع أي مظهر انساني وطبيعي، عليهم ان يبقوا في علب السجن الحجرية والحديدية المغلقة، ممنوع صوت الطيور، ممنوع تدفق المشاعر، الكابينت الاسرائيلي قرر اعدام عصفور عاهد نصاصرة مثلما اعدم ذلك القط الاليف في سجن بئر السبع الذي رباه الاسرى واستأنسوا به وصار رسولاً لهم،ومثلما اعدم السجانون شتلة فول خضراء زرعها الاسرى في سجن عوفر، لا اخضر في السجن، لا لون الا اللون البني الغامق، لا اجنحة ترفرف فوق الاسلاك الشائكة.