الضحية الأولى لفيروس كورونا المستجد ليس المرضى فقط بل هي العولمة، فقد أعلن الفيروس مع عوامل أخرى سقوط العولمة رسميا، وإعادة رسم الحدود السياسية والاقتصادية وعودة الدولة القومية والوطنية، وأثار النزعات الدينية والقومية ووضعها على رأس أولويات الأجندة الدولية كفيروس انكماش سيؤدي إلى انهيار النظام العالمي الذي بدأ بالتشكل في السبعينات وتبلور في التسعينات، وأعلن عن نفسه في بداية هذا القرن كمشروع تطور اقتصادي رأسمالي وفكري وثقافي شامل اعتبره المروجون له نهاية التاريخ وذروة الاستقرار والتطور الإنساني من حيث فتح الحدود أمام الثقافات والتجارة والتقدم التكنولوجي وتعميم الفائدة على الطبقات الفقيرة والقضاء على المشاعر القومية والوطنية والدينية التي هي من أسس الدولة الحديثة.
لكن ظهور الأحزاب الشعبوية في أوروبا وظاهرة ترامب يضاف إليها فيروس كورونا يمكن أن تقبر العولمة وتؤطر الديمقراطيات الغربية وغيرها ضمن نظام أشبه بالشمولي له نزعات دينية وقومية عنصرية امبريالية.
تبين بعد عقود قليلة من نشأة مفهوم العولمة بعد انهيار الاشتراكية الشرقية أنها تعني هيمنة الرأسمالية وشركاتها ودولها على بقية الدول، وأن اليد الطولى يجب أن تبقى للولايات المتحدة ومن حالفها أو ارتضى أن يكون تحت عباءتها مثل أوروبا. أما بقية العالم فظل نهبا للاحتكارات الجديدة أي الشركات التي تحتكر التكنولوجيا والتصنيع والتجارة العالمية وتمسك بزمام البورصات العالمية. وقد استمرأت الاحتكاريات الدولية وجود أسواق آسيوية وأفريقية غير مكلفة كالصيني مثلا واستخدمته كساحة خلفية للإنتاج غير المكلف، من هنا نشأت النمور الأسيوية ثم بلغت ذروتها في الصين وحدها. عمليا كانت نظرة الرئيس الامريكي ترامب حتى قبل توليه الرئاسة هي العودة الى الدولة الوطنية الأمريكية لأنه وجد في العولمة هامشا للمنافس الصيني يتحرك فيه اقتصاديا على الساحة الدولية. كما أن العولمة التي أنتجت اتفاقية التجارة الحرة من جهة واتفاق المناخ تحد من التوسع الرأسمالي للولايات المتحدة لصالح الصين ودول أخرى، فبدأ في التنصل من اتفاق التجارة الحرة ورفض الانضمام إلى اتفاقية المناخ التي تقيد الشركات الأمريكية في الانتاج غير المقيد بنواميس البيئة والمناخ في مجالات الصناعة والطاقة. وبعد عقود من غياب العنصر الديني في الحياة السياسية الدولية عاد ذلك العنصر مجددا في الخطاب السياسي العنصري لترامب من منطلق طائفي إنجيلي مجبولا بالوطنية الأمريكية. ورأينا كيف أن الأحزاب الشعبوية الأوروبية بدأت تنمو بقوة في أوروبا مستندة إلى خطاب سياسي قومي وعنصري وديني معاد من جهة للاتحاد الأوروبي وللهجرة وللإسلام، وبدا بعضها في الإفلات من الاتحاد الأوروبي الذي كان أحد تجليات العولمة، فبعد بريطانيا هناك دول أخرى تشهد حركات شعبوية تريد الفكاك من الاتحاد.
ليس صدفة أن يذهب الرئيس ترامب إلى الهند في خضم أزمة الكورونا وأزمته التجارية مع الصين وأن يلقي خطابا شعبويا هناك وكأنه يرغب في الهند حليفا له في مواجهة الصين وقد عبر عن ذلك صراحة منذ بداية الحرب التجارية مع الصين حيث دعا الشركات الأمريكية التي تعمل في الصين إلى نقل مصانعها إلى الهند أو فيتنام وهما دولتان علاقاتهما مضطربة مع الصين. والأغرب هو أن ليس من عادة الرئيس ترامب أن يلقي خطابات جماهيرية خارجية إلا أنه فعلها في الهند وصفق له الحضور عندما تحدث عن الإرهاب الإسلامي ولم ينظر إلى الشارع حيث قتل عشرات من المسلمين عشية زيارة ترامب وأثنائها في هجمات عنصرية هندوسية وكأنه جاء ليؤجج المشاعر الدينية بين الهندوس والمسلمين ولم يجد غضاضة في تضخيم أعداد مستقبليه حيث كان من المتوقع أن يصطف الملايين في الشارع لكن العدد لم يكن مليونيا، وزاد ترامب في عدد حضور خطابه في ملعب الكركيت إلى 125 ألفا بينما يتسع الملعب الى مئة ألف وكانت كثيرا من المقاعد خالية وانسحب نصفهم قبل أن ينتهي من خطابه بسبب حرارة الشمس. فقد سعى إلى إنجاز اتفاق تجاري مع الهند يعفي منتجات امريكية من الرسوم الهندية لكنه فشل في مهمته واكتفى بالقول إننا حققنا تقدما هائلا في إشارة إلى أن هدف الزيارة كان انتخابيا محضا لكسب الناخب الأمريكي، فهو يرغب في حليف هندي تابع له ينافس الصين تجاريا وليس بلاده، فقد قال إبان حملته الاولى إن الصين لن تكون دولة عظمى في عهدي وكأنه ينتقل من نظام العولمة إلى صدام الحضارات لصمويل هنتنغتون، والقاسم المشترك بين مودي وترامب هو العداء للإسلام والكونفوشية الصينية طبقا لتعليمات الأب المؤسس للاسلإموفوبيا اليهودي البريطاني برنارد لويس، الذي روج لخطر الإسلام على الغرب وتبعه هنتنغتون بتفصيل أكثر خلص فيه أن الصراع الحضاري الرئيس هو بين الغرب المسيحي والإسلام، ولعل نبش الحضارة الهندوسية من قبل ترامب محاولة لإيجاد حليف في الصراع الغربي مع الإسلام، لكن هنتنغتون الذي تنبأ بالصدام الهندوسي الإسلامي تنبأ أيضا بانضمام الكونفوشية الصينية إلى الإسلام ضد الهندوسية.
عمليا فيروس الكورونا أيقظ أو ربما كشف أن العولمة التجارية والثقافية والتكنولوجية تخسر معركتها ضد الشعبوية والقومية والنزعات الدينية، وأن فيروس العصبية الدينية الذي رافق ترامب إلى الهند، يعني العودة إلى الدولة القومية والدينية والتي تتسم عادة بالفاشية.