الكوفية:حين التقى شاعر اليونان العظيم يانيس ريتسوس شاعر فلسطين الخالد محمود درويش، لأول مرة، هتف شاعر اليونان بكل ما في جعبة أجداده الإغريق من الحكمة والثقة قائلا: "آه فلسطين .. يا اسم التراب .. ويا اسم السماء ... ستنتصرين"، وظل درويش الذي أعجب ببساطة وشعبية الشاعر اليوناني الذي فضله على العديد من الشعراء العالميين في ذلك العصر، يردد هذه الكلمة، مجددا في روحه وفينا أملا أكيدا، لا يحيد، بأن فلسطين ستنتصر في نهاية الأمر.
فلسطين ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وطوال الحرب الباردة، أي على مدار نحو سبعة عقود حتى الآن، كانت وما زالت تمثل ضمير العالم الحي وتوقه إلى الحرية والعدالة، ذلك أنها وحدها ما زالت تذكر الدنيا بعهود الاستعمار الذي مضى، فمأساتها نشأت ما بين الحربين الاستعماريتين العالميتين، وما منع حل قضيتها حلا مقبولا، كان هو الصراع الكوني نفسه، ففي ظل الحرب الباردة كان حلها سيحسب لحساب طرف دولي على حساب طرف آخر، وفعليا فإن آخر مدى وصلت إليه إسرائيل وأميركا كان الحكم الذاتي للسكان دون الأرض، كما ورد في كامب ديفيد السادات ـــ بيغين برعاية جيمي كارتر، في العام 1979، أي قبل عقد من نهاية الحرب الباردة.
وبالأصل، قامت إسرائيل كقوة استعمارية، وكجزء من توزيع المنطقة العربية ما بين الحليفين المنتصرين في الحرب الأولى، ومنع وحدتها وإقامة دولتها القومية الموحدة، ولم يكن لها أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد لا بحل المسألة اليهودية، حيث كان يمكن أن يكون ذلك الحل في أي مكان آخر.
إن إسرائيل ومنذ أقيمت تولتها دولتان بالراعية والاهتمام والدعم بشكل أساسي، كانتا هما زعيمتي الاستعمار العالمي منذ مطلع القرن العشرين الماضي، وهما بريطانيا العظمى أولا ثم الولايات المتحدة ثانيا وحتى الآن.
لكن وبسبب الكفاح العنيد للشعب الفلسطيني، حقق مشروع إقامة الدولة الاستعمارية نصف أهدافه، وما زال يسعى لتحقيق النصف الآخر، وحيث إن ثلاثة عقود مضت، أي منذ انهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، انكشف ظهر حركات التحرر، وفي طليعتها بالطبع الحركة الفلسطينية، التي دخلت في ضائقة حادة مطلع تسعينيات القرن الماضي، أي بعد حرب الخليج الثانية، ولولا اندلاع الانتفاضة، لما انفتح أفق أوسلو، الذي تضمن اعترافا إسرائيليا بفلسطين، وتسليما بإقامة سلطة ذاتية لها على الأرض، والأهم الاعتراف بقضايا الحل النهائي كقضايا خلاف.
بعد ذلك كل الرواية ما زالت فصولها ماثلة، فقد مرت على الشعب الفلسطيني أسوأ فترة ممكنة، وهي عقود ثلاثة من التفرد الأميركي بزعامة العالم، حيث سعت أميركا لإقامة نظامها أحادي القطب بعد النظام العالمي ثنائي القطب الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، أي منذ العام 1945 وانتهى العام 1990، وحيث إن الشعب الفلسطيني لم يرفع الراية البيضاء، صحيح أنه لم ينتزع من بين أنياب الاحتلال دولته المستقلة، ولم يفرض حل الدولتين، إلا أنه عزز وجود دولة فلسطين في المحافل الدولية وفي الوجدان العالمي، بل وفي محافل السياسة الدولية كلها، لذا فقليل من الوقت، وتظهر بوادر تفكك النظام العالمي أحادي القطب المنحاز لصالح الاحتلال، ومزيد من الوقت، وتتحول وجهة الضغط إلى الجانب الآخر، ولعل اليمين المتطرف الإسرائيلي قد أدرك بأن اللحظة الحالية مع وجود إدارة دونالد ترامب، لن تتكرر لاحقا، لذا أراد أن يسابق الزمن، لفرض ما سماها صفقة العصر، لعل وعسى ينتهي من تحقيق "مشروع دولته الاستعمارية بشكل تام وكامل".
لن نعيد ونكرر هنا القول، إن اعتماد إسرائيل بالكامل على الدعم السياسي ومن قبله المالي والعسكري على الولايات المتحدة، هو الذي ما زال يمنحها القدرة على إدارة الظهر للمجتمع الدولي وعدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، لكن هذا الواقع ليس جزءا فقط من الصورة غير العادلة في المتجمع الدولي، بل هو صورة النظام العالمي الذي يزمع العالم على تغييره الآن.
المهم هو أن كفاح الشعب الفلسطيني ما زال مستمرا، ويجد كل يوم مناسبة للتأكيد على حيويته، خاصة في يوم الأرض، حيث كان مخططا أن يكون يوم أمس، مناسبة لتجديد حراك يوم الأرض من قطاع غزة، لكن ظروف العالم الخاصة بمواجهة فيروس كورونا، حدّت من ذلك، فيما ابتدع العقل الفلسطيني وابتكرت الإرادة الفلسطينية، اللجوء إلى الفعاليات الرقمية، حيث يرفع العلم الفلسطيني في كل مكان وحيث يطلق النشيد الوطني ليملأ الدنيا، وبالأساس أرجاء فلسطين الانتدابية، للتأكيد على وحدة الكفاح الوطني الفلسطيني في مثلث الداخل والقدس والضفة وقطاع غزة، ومن ثم كل الشتات.
وهكذا يمضي الكفاح الوطني الفلسطيني، ولن يتوقف أبدا، ولا حل إلا بفرض حل الدولتين كحل وسط، أو فرض الدولة ثنائية القومية في نهاية المطاف. وعالم اليوم، قد تجاوز حقبة الاستعمار وفي طريقه لإغلاقها تماما، وهذا لن يكون إلا بإقامة العدل في فلسطين، وإنهاء آخر احتلال ودحر آخر مظاهر العنصرية والتطرف الديني والقومي.