تتضارب بل حتى تتناقض في كثير من الأحيان التقديرات، حول احتواء انتشار فيروس كورونا في معظم دول العالم، ورغم أن الدولة الوحيدة التي يبدو أنها قد تخلصت من شره، نقصد بها أول دولة ظهر فيها وهي الصين، إلا أن هناك أنباء تشير إلى أنه يعود إليها مجدداً، فيما الدول الأخرى التي انتشر فيها بقوة، وقالت إنها قد تجاوزت لحظة ذروته، ما زالت الأخبار تتناقل حصاد الوباء من المتوفين والمصابين، بل حتى إن من يتم الإعلان عن شفائهم، هناك ما يشير إلى أنهم عرضة للإصابة بهد مجدداً، أي أن من يشفى منه لا يكتسب مناعة دائمة ضده تماماً.
كذلك كل ما روّج له البعض، ومنهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه، من علاجات، منها بالطبع لقاح الملاريا، هيدروكسي كلوروكين، أثبتت قبل يومين أكبر دراسة طبية بأنه لم تظهر له أية فائدة بالخصوص. مختصر القول، أن الحيلة الوحيدة التي بيد البشرية حالياً في مواجهة الوباء هي التباعد الاجتماعي والحجر المنزلي لمئات ملايين البشر، لمنع تفشيه، في الوقت الذي أشارت فيه الدراسات الطبية الخاصة بمحاولة التوصل لعلاج للمرض، إلى أن ذلك ما زال بعيد المنال، بل إنها بحاجة إلى حدود عام أو أكثر من أجل تحقيق ذلك.
الجديد في الأمر بعد مرور نحو ثلاثة أشهر، من انتشار الجائحة في معظم دول العالم، هو بدء ظهور التأثيرات الاقتصادية على مصالح الشركات والدول وحتى الأفراد، لدرجة دفعت قطاعات اجتماعية في أكثر من دولة للتظاهر والاحتجاج، على حالة الحجر والتباعد الاجتماعي، حيث في حين تعرض الأثرياء إلى خسائر تقدر بمليارات الدولارات، فإن هناك قطاعات واسعة من البشر العاملين في القطاعات الخاصة، من عمال وباعة متجولين، يحصلون على قوتهم بشكل يومي، باتت على حافة الموت جوعاً، لذا فإن هناك حالة ثانية الآن، تتجاوز حالة الهلع الأولى، تظهر الحاجة إلى التفكير، في كيفية التعامل مع تلك الفترة التي تفصل بين البشرية اليوم، ويوم التوصل إلى العلاج الشافي من الوباء.
وفعلاً بدأت كثير من الدول تعلن تباعاً عن سياسة التخفيف من الإجراءات في مواجهة تفشي الوباء، من البرازيل إلى إسرائيل، مروراً بأميركا وأوروبا، وحتى بعض الدول العربية، باتت تتحدث صراحة عن خلخلة نظام الحجر الصارم، بما يعني تحقيق حالة من التعايش مع الوباء، بالتوصل إلى توازن صعب للغاية بين إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاقتصاد، وبين الحفاظ على حياة الناس.
كيف يمكن «التعايش» مع الوباء إلى حين التوصل إلى العلاج الشافي، تلك هي المسألة، وهذا هو السؤال الجوهري الآن، وحيث أن الرؤية تتباين بين الدول والحكومات، من حيث كون بعضها ينحاز تماماً إلى جانب الحفاظ على حياة الناس، وبعضها يفضل المصلحة الاقتصادية، فإن منظمة الصحة العالمية اضطرت قبل يومين إلى التحذير من التسرع في رفع يد بعض الدول عن إجراءات التباعد الاجتماعي، بإعادة حركة السفر العالمية، وما إلى ذلك، بل إن المدير العام للمنظمة السيد تيدروس أدهانوم جيبريسوس، قال إن الطريق أمام البشر ما زال طويلاً في الحرب مع الوباء، وأن هناك اتجاهات تصاعدية له بشأن تفشيه في أجزاء من أفريقيا، وأميركا الوسطى والجنوبية، أي تلك المناطق التي لم يتفشَّ فيها بعد، وأضاف إن معظم الدول ما زالت في مراحل مبكرة من تفشي الوباء.
إن مخاطر «كورونا» وحسب التقديرات الطبية، لا تقتصر مع ذلك على فيروس كوفيد 19، فهناك تقديرات تقول إن هذا الفيروس إنما هو واحد من عائلة كوفيد، وإن هناك عشرات الفيروسات التي تنتمي للسلسلة القاتلة، بما يضع البشرية كلها في مواجهة خطر حقيقي يصل إلى حد أو مستوى التهديد الوجودي لها، الأمر الذي يتطلب ظهور حالة من التعاضد بين الأمم، وهي بالطبع غير موجودة حالياً، لمواجهة العدو، من خلال زيادة الاهتمام بالمختبر الطبي، كذلك بوضع الحروب والصراعات ومنها الحرب الاقتصادية جانباً.
إن البشرية تواجه خطراً، قد لا نبالغ لو قلنا بأنه يتجاوز خطر الحروب العالمية الثلاث التي ظهرت في القرن الماضي، الأولى والثانية والباردة، التي حصدت نحو مئة مليون من البشر وأكثر، ودفع انقسام البشر بين طرفي الحروب ومن ثم بين معسكرين عالميين، إلى خسائر اقتصادية هائلة، ارتبط بعضها بسباق التسلح، على حساب مصلحة البشرية جمعاء، التي أهملت الاهتمام بمشاكل الفقر والبيئة، ومنها التصحر وثقب الأوزون.
وفي هذا الوقت بالذات، تمثل مواصلة سياسة الحرب الاقتصادية، خاصة تلك التي تتبعها إدارة ترامب في واشنطن، خطراً كبيراً على البشرية جمعاء، تتجاوز مخاطرها في انحيازها للأثرياء الذين لا يتجاوز عددهم في العالم النصف بالمائة على حساب أكثر من 99% من البشر، لتصل إلى تهديد الوجود البشري على الكرة الأرضية برمته.
إن درس «كورونا» بالغ، فهو يشكل صدمة حقيقية، بعد أن أظهر المدى الذي وصل إليه «تغوّل» النظام العالمي وحيد القطب الذي تزعمته الولايات المتحدة، منذ ثلاثة عقود، وكان من نتيجته أن سيطر نحو خمسين مليونيراً، يشكلون أقل من 1% من التعداد البشري على الكرة الأرضية، على نحو 44% من ثروة البشر، وهكذا باتت مئات ملايين الناس أمام خطر الموت جوعاً في حالة استمرار التباعد الاجتماعي والحجر المنزلي، أو الموت بالوباء.
بتقديرنا، في نفس الوقت الذي يجب أن تضع البشرية كلها أيديها بيد المنظمة العالمية، لمواجهة الوباء واستمرار العمل على إيجاد اللقاح أو المصل لمعالجته، لا بد من تغيير النظام العالمي بحيث يصبح أكثر توازناً بما يحقق الحفاظ على حياة البشر، وعلى التقدم ولو قليلاً على طريق المساواة، ومحاصرة ظاهرة الثراء الفاحش للأفراد والدول، وحالة التخبط الناجمة عن قيادة أميركية مجنونة للعالم، هذا درس عالمي، يقود إلى أن تتحول بوصلة التظاهرات والاحتجاجات، إلى هذا الاتجاه، حتى لا يبقى مصير البشرية كلها بيد الأثرياء ومن يمثلهم في قيادة العالم، ويتحكم بريموت إطلاق آلاف الرؤوس النووية، وشن الحروب لصالح ثراء النخبة البشرية، السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية.