يبدو ان اسرائيل بعد ان استكملت مشروعها الكولونيالي الاستيطاني العنصري بدأت ترتب تفاصيل التفاصيل في حياة الشعب الفلسطيني على طريق دراما التدمير للهوية الوطنية الفلسطينية ولمشروع التحرر الفلسطيني.
التهديد الصهيوني الأخير لقطاع البنوك العاملة في فلسطين بالإعتقال والملاحقة بسبب فتحها حسابات للأسرى والشهداء والجرحى وتهديد البنوك بأنها ستواجه دعاوى قضائية اذا استمرت في صرف رواتب الأسرى أو ذويهم، جاء بعد أن فشلت سلطات الإحتلال على مدار كل السنوات السابقة في ضغوطاتها المستمرة على القيادة الفلسطينية للتخلي عن الأسرى والشهداء والجرحى وعائلاتهم تحت حجة دعم الإرهاب وتأكيد الرئيس أبو مازن أكثر من مرة أن الأسرى والشهداء والجرحى أغلى ما نملك وأن أي مبلغ يتوفر لدينا سيكون مخصصا لهم حتى يفهم الجميع أن الشهداء والأسرى والجرحى هم أعظم وأشرف ما لدى شعبنا رافضا سياسة الإبتزاز والقرصنة الإسرائيلية.
وسبق ان صادق الكنيست الإسرائيلي بوم 3/5/2018 على قانون احتجاز اموال الضرائب الفلسطينية تحت ادعاء انها تصرف كإعانات لعائلات الاسرى والشهداء والجرحى هي أكثر بشاعة ولا اخلاقية من الحرب نفسها، أنها تسلخ الشعب الفلسطيني حيا، فتضع تشريعات ليست سوى آليات لطحن البشر تحت غطاء القانون.
لقد قامت سلطات الإحتلال أكثر من مرة وما زالت بأحتجاز أموال المقاصة الفلسطينية تحت حجة أن جزءا من هذه الأموال يذهب لإعالة عوائل الأسرى والشهداء والجرحى، وقامت في الفترة الأخيرة بالإستيلاء على أموال أكثر من 35 أسيرا من القدس والداخل الفلسطيني وإغلاق حساياتهم ومداهمة منازلهم تحت نفس الإدعاء أن هذه الأموال هي دعم للإرهاب إضافة الى حملة دبلوماسية على المستوى الدولي للتحريض على السلطة الوطنية والقيادة الفلسطينية لإجبارها على الخضوع للشروط الإسرائيلية.
الهدف الاسرائيلي والامريكي والاوروبي من خلال هذا الابتزاز والضغط على السلطة الفلسطينية والبنوك ليس ماديا بقدر ما هو وضع كل النضال الوطني الفلسطيني في إطار الارهاب والجريمة، وان المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال والتي يمثلها الاسرى والشهداء والجرحى اصبحت بلا مشروعية ومجردة من اسسها القانونية والانسانية، ومن الشرعية الدولية التي اجازت لأي شعب يخضع للاحتلال بمقاومة هذا الاحتلال من اجل حريته وكرامته.
اسرائيل بشنها العدوان على عائلات الاسرى والشهداء والجرحى تريد ان تخرج نقية وبريئة وطاهرة ونظيفة من دمنا ونكباتنا وآلامنا وكوارثنا المستمرة التي تسبب بها الاحتلال الاسرائيلي ، وإذا ما نجحت في ذلك ورضخنا للضغط الاسرائيلي الامريكي فإن التوجه الى المحكمة الجنائية الدولية من قبلنا سيكون مدعاة للسخرية بعد ان نكون قد اعترفنا وقبلنا ان كل اشكال مقاومتنا للاحتلال هي جرائم وارهاب.
اسرائيل تريد ان تحدث انقلاب على التاريخ الفلسطيني وكافة القرارات الدولية، فليس فقط ما تسعى اليه هو نسف الشخصية والمكانة القانوينة لدولة فلسطين واسراها وشهدائها بعد اعتراف الامم المتحدة والعديد من الدول بالدولة الفلسطينية ، وإنما التنصل وبغطاء قانوني ودولي عن مسؤولياتها الانسانية والقانونية بسبب احتلالها لفلسطين واستكمال سياسة الضم والاستيطان للأراضي الفلسطينية وإزاحة لشعب الفلسطيني من الوجود السياسي.
لقد بدأ التدخل بالدعوات الاسرائيلية لتفكيك الاونروا وشطب قضية اللاجئين، ووصل التدخل الى المناهج الدراسية الفلسطينية، والى سياسة النهب والسرقة والقرصنة المكشوفة لكل شيء في حياة الفلسطينيين، سرقة المياه والحركة والهواء وحرية الرأي والارض والاشجار، وسرقة اموال الاسرى في المحاكم العسكرية الاسرائيلية، وجباية الملايين بالغرامات وسياسة التعويضات ، فقد اصبح الضحية في الزمن الصهيوني يدفع تعويضا للقاتل والجلاد.
بناء على موقف القيادة الفلسطينية يجب أولا: التصدي بسرعة وبقوة للعدوان الاسرائيلي على المركز القانوني للاسرى والشهداء والجرحى ولمقاومة وكفاح الشعب الفلسطيني، فالاجراءات الاسرائيلية مخالفة اساسا لاتفاق اوسلو الذي احال كافة الخدمات الانسانية والاجتماعية الى السلطة الفلسطينية بعد ان ترك الاحتلال مصائب وفجائع جمة في كل بيت فلسطيني ، فالسلطة عام 1994 استلمت مجتمعا مدمرا ومأساويا وكارثيا.
ثانيا: ان نبرز الحقائق حول الارهاب اليهودي المنظم والمدعوم من دولة الاحتلال رسميا، وما تقوم به حكومة اسرائيل من دعم مالي واجتماعي وقانوني للقتلة والارهابيين اليهود والدفاع عنهم وإعانة عائلاتهم ، إضافة الى تمويل منظمات الارهاب الاستيطانية التي ترتكب القتل والحرق والخطف بحق ابناء شعبنا الفلسطيني.
ثالثا: ان نبرز الخطاب الرسمي الاسرائيلي الذي يدافع عن القتلة والارهابيين اليهود و الذين اعدموا عن سبق واصرار العشرات من اطفالنا وشبابنا وفتياتنا، ووقوف الحكومة الاسرائيلية للدفاع عن القتلة في المحاكم العسكرية واصدار العفو عنهم.
رابعا: ان نتوجه الى محكمة العدل الدولية لاستصدار فتوى حول المركز القانوني للاسرى والمعتقلين وفق القانون الدولي والقانون الدولي الانساني، وذلك لتحصين الصفة القانونية للاسرى كمحميين وفق اتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة ، والتأكيد على الوضع القانوني للاراضي الفلسطينية كأراضي محتلة، وما لهذا الرأي القانوني من قيمة سياسية تمكننا من الدفاع عن الاسرى وحمايتهم وتعزيز المركز السياسي لدولة فلسطين.
خامسا: ان نتسلح بموقفنا بعد انضمام فلسطين كدولة الى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتي اعطتنا الحق بالعناية والرعاية الاجتماعية لأبناء شعبنا كسلطة تدير شؤون الحياة في فلسطين اجتماعيا وثقافيا ونقابيا وتعليميا واقتصاديا وتحملها المسؤوليات حول ذلك.
سادسا: أن نعمل على تسريع فتح تحقيقات في المحكمة الجنائية الدولية بعد الإحالة لها قضايا جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية التي ترتكبها اسرائيل كسلطة محتلة كالتعذيب والنقل القسري للاسرى الى سجون داخل اسرائيل والمحاكمات غير العادلة والقرصنة المالية وغيرها من المخالفات الجسيمة التي ترتقي الى مستوى جرائم الحرب.
سابعا: ان نطالب بتعويضات عن الاضرار التي اصابت شعبنا على يد الاحتلال الاسرائيلي وما نتج عن هذا الاحتلال من خسائر مادية وبشرية، وذلك وفق الالتزامات الواردة في اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها او وفق ميثاق روما، وهو حق مشروع في اطار القضاء الدولي.
إن رعاية العائلات المتضررة على يد الاحتلال كفلها القانون الاساسي الفلسطيني وهو بمثابة دستور دولة فلسطين في المادة 22 والتي تنص على ان ينظم القانون خدمات التأمين الاجتماعي والصحي ومعاشات العجز والشيخوخة ، إضافة الى ان رعاية اسر الشهداء والاسرى ورعاية الجرحى والمعاقين واجب ينظم القانون احكامه وتكفل السلطة الوطنية لهم خدمات التعليم والتأمين الصحي والاجتماعي.
وبناء على القانون الاساسي الفلسطيني انشئت وزارة شؤون الاسرى والمحررين والتي حولت الى هيئة شؤون الاسرى والمحررين، وأقر قانون دعم الاسرى في السجون الاسرائيلية رقم 14 لسنة 2004، وقرار بقانون رقم 1 لسنة 2013 بشأن تعديل قانون الاسرى والمحررين رقم 19 لسنة 2004، وأقرت خمسة لوائح تنفيذية لهذا القانون، مما جعل رعاية الاسرى جزء من المنظومة القانونية والدستورية للنظام السياسي الفلسطيني.
علينا ان نوضح للواقعين في الخداع الاسرائيلي، ان حكومة اسرائيل حولت قطاع الاسرى الى سوق اقتصادي يدر الاموال الهائلة على الخزينة الاسرائيلية دون ان يكلفها ثمن اعتقال الآلاف اي شيء ، وقد وضعت الاسرى في حالة امر واقع يجعلها تتنصل من المسؤولية القانونية والأخلاقية عن حياة ومعيشة الاسرى صحيا واقتصاديا وخدماتيا وتعليميا، وهي مرتاحة تماما من تلقي مخصصات " الكنتين" للأسرى في السجون ، وفي هذه الحالة البرغماتية لم يعد الاسرى "إرهابيين".
اسرائيل تريد ان تحول الكائن الحيّ في فلسطين الى جثمان، ومن ثم الى مجرد شيء، وتسعى الى ان يستسلم المجتمع الفلسطيني استسلاما اخلاقيا وقيميا، فلم تعد السلاسل الحديدية الوسيلة الوحيدة لتقييد حرية الناس،وإنما هناك ما هو أقوى من السلاسل، تحطيم روح التضامن الداخلية للمجتمع.
من المعروف انه بسبب الحروب والاستعمار والنزاعات المسلحة، وما يصيب البشرية من أهوال ومآسي، فقد اتجه المفكرون والفقهاء والهيئات الدولية الى وضع الكثير من القواعد العرفية والاتفاقيات الانسانية لحماية ضحايا النزاع المسلح، فوضعت قواعد القانون الدولي الانساني لحماية المدنيين وحل المشكلات الانسانية والاجتماعية الناتجة عن الصراعات المسلحة، ومن هنا تكتسب السلطة الوطنية الفلسطينية التي أنشئت باتفاق دولي الحق القانوني في رعاية متضرري الاحتلال الاسرائيلي من أبناء الشعب الفلسطيني.
يتضح للمراقبين ان التشريعات التعسفية العنصرية التي يسنها الكنيست الاسرائيلي والتي بلغت أكثر من 190 قانون ومشروع قانون منذ عام 2014 تنتهك احكام وأعراف القوانين الانسانية والدولية، وتستهدف شرعنة السيطرة على الشعب الفلسطيني ، ووضع تقنيات ترويضية للضم والسيطرة، فلم يعد الاحتلال مجرد مظهر عسكري، بل جزءا عميقا من الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، بحيث تحول كل الناس الى سجناء دائمين طوال اليوم وطوال الحياة.
إن مسؤولية السلطة الفلسطينية هي توفير الضمان الاجتماعي للعائلات المنكوبة والمتضررة، وهذا ما تطبقه كل دول العالم بما في ذلك اسرائيل المحتلة حتى اتجاه عائلات المجرمين اليهود، وهذا الضمان يقع في اطار قاعدة قانونية دولية تقضي بالاهتمام بالعائلات المتضررة بغض النظر عن العمل الذي قام به احد افرادها ، فالمسؤولية فردية وليست جماعية، وغير ذلك سيعكس نفسه على الاستقرار الاجتماعي.
تسعى اسرائيل الى تدمير مسألة المواطنة الفلسطينية وحقوقها ، فحين نسكت عن حقوقنا الواضحة بسبب الضغط او الخوف فإننا لن نتوقع من الآخر ان يحترم لنا هذا الحق، سيتصرف في المرة القادمة وكأن التطاول على حقوقنا من المسلمات.
الهدف الاسرائيلي من الضغط لوقف مخصصات الاسرى والشهداء والجرحى هي خلق مجتمع فلسطيني مطيع، وعلى قاعدة ان تتغير قيم ومباديء الانسان الفلسطيني ومفاهيمه الوطنية لضمان انصياعه التام والدائم للاحتلال.
علينا ان نقف بقوة ضد سياسة شيطنة شعبنا ومناضليه، والوقوف للتصدي للنظرية الاستعمارية الصهيوينة القائلة: ان الذي حول الوحوش الضارية الى مخلوقات مسلية في السيرك وجعل الفيلة تقف على رؤوسها، والاسود تقفز كالبهلوانات، يستطيع ان يجري التحويل ذاته على الانسان وتحويله الى مخلوق مسلوب الارادة.
تستطيع اسرائيل ان تحتجز اموالنا بفعل القوة والقرصنة ولكنها لا تستطيع ان تحتجز كرامتنا الانسانية والوطنية، ولا تستطيع ان تغير هويتنا من مناضلين من اجل الحرية الى خاضعين أذلاء.
الشعب الفلسطيني يواجه دولة عصابات وأوغاد سبق أن حذرهم شاعرنا محمود درويش عندما قال "انا لا اسطو على احد..
ولكني اذا ماجعت اكل لحم مغتصبي... حذار حذار من جوعي ومن غضبي".