في الآونة الأخيرة كثرت الأحاديث حول الموقف العربي من القضية الفلسطينية، وخاصة في ضوء انفتاح بعض الدول العربية في علاقاتها تجاه إسرائيل وذهاب البعض نحو تطبيع العلاقات من خلال صفقات سرية تجارية وأمنية. بل إن الأمور ذهبت إلى مستوى المجاهرة بتطبيع العلاقة وحتى دعوة وفود إسرائيلية رياضية وسياسية وصلت إلى مستوى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية وقادة الأجهزة الأمنية بالإضافة إلى استقبال وفود رجال الأعمال. كما زار بعض المواطنين العرب إسرائيل سراً وعلانية. وهذا كله ترافق مع تراشق في وسائل التواصل الاجتماعي بين الفلسطينيين ومؤيدي القضية من العرب المعارضين للتطبيع وبين مواطنين عرب يريدون التحلل من القضية الفلسطينية وأي نوع من الالتزام العربي تجاه الفلسطينيين، في إطار ترديد مقولات من نوع «على الفلسطينيين أن يقلعوا أشواكهم بأنفسهم»، أو انهم عقدوا اتفاقاً مع إسرائيل لوحدهم ويقيمون علاقات مع إسرائيل، أو ينسقون ويطبعون مع إسرائيل ولا يحق لهم لوم العرب على تطبيعهم أو علاقاتهم.
صحيح أن غالبية المواطنين العرب وأحزابهم السياسية لا يزالون يرفضون التطبيع، كما أن الأنظمة العربية بما فيها تلك التي تطبع مع إسرائيل تقول أنها ملتزمة بالمبادرة العربية للسلام التي تقول إن تطبيع العلاقات يأتي بعد الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وإيجاد حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الأممي 194، ولكن توجد هناك مشكلة حقيقية في الدور العربي تجاه القضية الفلسطينية. فالموضوع لا يتعلق فقط باصدار البيانات في إطار الجامعة العربية والتي كلها بدون شك تؤيد القضية الفلسطينية وتؤكد تضامنها مع الشعب الفلسطيني وضد الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته والعنصرية، بما في ذلك مشروع الضم الذي تنص عليه خطة الرئيس دونالد ترامب، بل هو في حقيقة الأمر يرتبط بمدى جدية الموقف العربي في مواجهة السياسة الإسرائيلية ومن ورائها سياسة الولايات المتحدة الداعمة لإسرائيل.
قد يقول قائل إن الظروف تغيرت وإن المصالح لها الاعتبارات الأولى، وما كان قائماً في سنوات السبعينات والثمانينات لم يعد قائماً الآن، حتى النظام العالمي تغير وموازين القوى الدولية والتحالفات هي أيضاً تبدلت مع الوقت. هذا صحيح فعلاً حتى درجة استقلال بعض الدول العربية وارتباطاتها تغيرت. ولكن هناك أهمية استثنائية للقضية الفلسطينية ليس فقط بسبب كون الفلسطينيين جزءاً من الأمة العربية الواحدة، وهناك ارتباطات وعلاقات قومية، وإنما أيضاً بسبب مسؤولية العرب عن مأساة الشعب الفلسطيني منذ ما قبل النكبة وخلال حرب عام 1948، وأيضاً عدوان 1967 واحتلال ما تبقى من فلسطين. وهذه مسؤولية تاريخية وقومية كبرى. بالإضافة إلى أن السبب الرئيس في زرع إسرائيل في قلب العالم العربي لم يكن يستهدف فقط الفلسطينيين أو فلسطين لوحدها بل كل العالم العربي الذي أريد له أن يبقى مقسماً وتحت الاستعمار إلى ما شاء الله.
هناك مصلحة عربية أكيدة في حل القضية الفلسطينية والتوصل إلى سلام شامل وعادل في المنطقة، لأن هذا يمكنه أن يقضي على الكثير من التوترات والصراعات والتهديدات الأمنية وغيرها، ويمكنه كذلك أن يحقق ازدهاراً وانتعاشاً في الشرق الأوسط بل سيتعدى تأثيره هذه المنطقة إلى السلام والأمن الدوليين. ولكن القضية القومية بدون شك هي الأساس طالما نحن أمة عربية واحدة همومها واحدة ومصالحها ومشاكلها متداخلة. ولكن السؤال هل نحن ساهمنا ببقاء قضيتنا قضية العرب القومية الأولى، وهل لا يزال ممكناً أن نعيدها إلى وضعها الطبيعي؟
لا بد في هذا السياق من نقاش الموضوع بطريقة هادئة وموضوعية وبعقل مفتوح. ولهذا ينبغي الاعتراف بأننا ساهمنا بطريقة ما في تحرير اشقائنا العرب من مسؤولياتهم تجاه القضية الفلسطينية أولاً باصرارنا على شعار القرار الفلسطيني الوطني المستقل ليس في إطاره العربي الواسع. وهذا برز أكثر في توقيع «اتفاق أوسلو» الذي تم التوصل إليه مع إسرائيل بدون مشاركة عربية، حتى من مصر التي تربطها بإسرائيل اتفاقات سلام والأردن التي على تماس أكثر من اي دولة بالمسألة الفلسطينية. ولعلنا بحاجة إلى سؤال أنفسنا اليوم لو كان «اتفاق أوسلو» حصل في إطار عربي يشمل مصر والأردن هل كان بإمكان إسرائيل أن تخرقه وتتنكر له كما تفعل اليوم؟ لقد هلل الفلسطينيون لموقف العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الذي هدد إسرائيل بصدام كبير مع الأردن إذا ما أقدمت على ضم مناطق فلسطينية بشكل أحادي الجانب. وهذا موقف على درجة كبيرة من الأهمية يمكنه أن ينعكس على قرارات ومواقف إسرائيل. تخيلوا لو أن مصر والأردن يهددان بتجميد اتفاقات السلام مع إسرائيل أو إلغائها كلياً لو أقدمت إسرائيل على ضم غور الأردن ومناطق محتلة أخرى، وهددت مبدأ حل الدولتين على أساس حدود عام 1967، وتخيلوا لو أن الدول العربية وعلى رأسها السعودية ودول الخليج تبعث برسالة للولايات المتحدة الأميركية تطالب فيها بوقف عملية الضم الإسرائيلي ووقف تطبيق خطة ترامب، وإلا فإن العلاقات مع أميركا يمكن أن تتضرر. لا شك في هذه الحالة سيكون الموقف الدولي مختلفاً.
نحن بحاجة إلى إعادة القضية الفلسطينية إلى الإطار العربي الواسع حتى لو تخلينا عن وهم القرار الفلسطيني المستقل الذي لم يعد فعلياً مستقلاً في ظل الاتفاقات مع إسرائيل. وهذا لا يعني بأي حل التنازل عن أي من حقوقنا الوطنية بل الذهاب نحو تطبيق المبادرة العربية للسلام باعتبارها المشروع القومي العربي الوحيد لحل القضية الفلسطينية، وهذا لا يعني أيضاً بأن نستسلم لضغوط بعض الدول العربي للتجاوب مع مشروع ترامب. والسؤال هنا هل نحن قادرون على إعادة القضية للعرب أو إعادة العرب للقضية؟