قبل عدة شهور توقعتُ أن ينفد صبر الدولة المصرية، وأن تتدخل عسكرياً لمنع تمدد تركيا على حدودها الغربية، وأن تحسم الصراع الداخلي باتجاه ولمصلحة الفريق حفتر.
كان ذلك على أبواب «أزمة كورونا» والتي استثمرتها تركيا لتعزيز تدخلها في ليبيا بأكثر من 5000 آلاف مقاتل، معظمهم من «النصرة»، أو من تنظيمات متطرفة «داعشية» المنظر والمظهر والجوهر.
كما قدمت تركيا لـ «حكومة الوفاق» الإخوانية الهوى والهوية، المدعومة من مليشيات متطرفة في مصراتة، وغيرها، والمتجانسة مع المرتزقة الوافدة إلى ليبيا، معدات عسكرية متطورة، بما في ذلك الطائرات المسيّرة عالية الفعالية والتقنية، ومعدات ثقيلة غيّرت في توازن القوى على أرض المعارك، بحيث أربكت خطوط دفاع حفتر في مناطق مختلفة، كما أجبرته على التراجع في ثلاث مناطق رئيسية، بالإضافة إلى التراجعات الكبيرة في جبهة طرابلس.
الرئيس التركي الذي يستبيح أرض العراق وسورية، والذي يرفع العلم التركي على أجزاء واسعة من الأرض السورية في محيط إدلب، والذي يتوغل ويقصف مناطق شاسعة في الشمال العراقي، ويتعامل معها كميدان تجارب، ويحرق مناطق كاملة بحجة مطاردة قوات حزب العمال الكردستاني، يرمي بثقلٍ كبيرٍ لاحتلال منطقتي سرت والجفرا، بهدف الإطباق على كامل الغرب الليبي، وتكريس دولة ليبية في هذه المنطقة، مقابل «دولة» الشرق الليبي، لكي يؤسّس فيها قواعد عسكرية، ويتربّع على عرش النفط فيها، وقضية النفط هنا ليست من عداد المضمر، وإنما في إطار المعلن الذي لا يقبل التأويل.
المرجّح أن السيد أردوغان استثمر بالإضافة إلى «أزمة كورونا»، وانشغال أوروبا بالجائحة، خصوصاً فرنسا وإيطاليا، حساسية العلاقة المصرية الأثيوبية، وقرأ جيداً التعنّت الأثيوبي، باعتباره عاملاً مشجّعاً له على التدخل العسكري في ليبيا.
اعتقد أردوغان أنّ مصر لن «تُغامر» بحرب أو بتدخل عسكري في ليبيا وهي تواجه التهديد الأثيوبي، وتهديد «كورونا» للاقتصاد المصري الذي كان يُبشّر بنموّ واعد قبل الجائحة، إضافةً إلى استمرار الإرهاب في سيناء.
والأهم أن أردوغان قد ابتزّ أوروبا في قضية اللاجئين و»تدفقهم» إلى أوروبا، دون أن يؤدي هذا الابتزاز إلى ردود أفعال من شأنها أن تثنيه عن خططه في التوسع نحو منابع النفط الليبية، ونحو إقامة قواعد عسكرية ثابتة تركية في الغرب الليبي، ومواقع بحرية تربط ما بين القواعد العسكرية في قبرص «التركية» والقواعد على الساحل الليبي.
وأعتقد أردوغان أن وجود تركيا المفصلي في «حلف الناتو»، والأهمية الخاصة للدور والموقع التركي لـ «الناتو»، سيجعلان ردة الفعل الأوروبية الأمريكية على التوسع والتمدّد التركي إعلامية شكلية ليس إلا، وهو الأمر الذي سيحدّ من ردة الفعل القبرصية واليونانية، وسيهمّش دوريهما، وما يمكن أن يلعباه من دور في وقف الاندفاعات التركية.
قد تنطوي اعتقادات وتقديرات الرئيس التركي على بعض أوجه «الصحة»، وقد تكون مراهناته معقولة لو أن تركيا أرادت من خلال هذا التوسع والتمدّد تحسين شروط «حكومة الوفاق» مع الجنرال حفتر. أمّا وإن تركيا قد بدأت بتجاوز هكذا هدف، وأصبحت تخطّط لإقامة دولة في الغرب الليبي تحت غطاء «الدفاع» عن «شرعية» «حكومة الوفاق»، وأعلنت أطماعها جهاراً نهاراً بالسيطرة على حقول النفط الليبية، وأنها ربما من خلال هذا التمدّد والتوسع ستعزز من قدرتها على ابتزاز أوروبا بالخطوط البحرية للنفط، وبحلقة مركزية أخرى من حلقات المهاجرين إلى أوروبا، فإنها تكون قد وضعت الدولة المصرية أمام خيارات صعبة.
مصر وقد وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه مهّدت لتدخلها العسكري القادم بخطة السلام التي أعلنتها في القاهرة، وحصلت من خلالها على دعم عربي ودولي للتدخل، خصوصاً أن هذه الخطة تعيد للحل السياسي اعتباراته، وهو ما يتفق ويتوافق مع الموقفين العربي والدولي، ومع الأمم المتحدة على وجه التحديد.
وإعلان تركيا وحكومة السرّاج رفض هذه الخطوة يعني أن التدخل المصري أصبح في مرحلة الإعداد اللوجستي المباشر. وعندما حددت القيادة المصرية خطوطها الحمراء على الهواء مباشرة، ومن خلال الرئيس عبد الفتاح السيسي، فهذا يعني شيئاً واحداً، إما قبول خطة السلام المصرية المدعومة عربياً ودولياً أو التدخل المباشر لفرض هذه الخطة بالقوة العسكرية. وأرى أن هذا هو التفسير الوحيد لحديث الرئيس المصري من أنه بات يمتلك الغطاء المطلوب للتدخل العسكري.
فشلت «جماعة الإخوان» في تونس بإسداء المساعدة لأردوغان، واستطاعت القوى الوطنية التونسية وقف هذا المسار. أما الجزائر والمغرب فلم تقدّما لأردوغان أي مساعدة أو دعم، إن لم نقل إن أردوغان قد فشل تماماً هنا، أيضاً.
الدولة الوحيدة التي بدت مؤيّدة لتركيا هي إيران، دون أن يعني تأييدها أبعد من حدود الموقف السياسي الحذر والإعلامي المتحفّظ، أقصد أن مصر مهّدت سياسياً بما يكفي للتدخل العسكري، وهي الآن مدعومة من موقف عربي ودولي «يؤهّلها» لحسم المعركة في أي لحظة.
لن يكون التدخل العسكري المصري هجمات عسكرية مباشرة، وإنما في أغلب الظنّ دعم حركة مقاومة ليبية قبائلية كبيرة ضد القوات التركية وضد قوات السرّاج، وحرب استنزاف قوية تبقي قواتهما في حالة دفاع وتبقيهما تحت نيران مكثفة تفقدهما كل قدرة على المبادرة وكل إمكانية على المناورة.
في هذه الأثناء سيتم دعم الجنرال حفتر بأسلحة نوعية جديدة، وستحصل مصر من روسيا على الدعم السياسي المباشر في مجلس الأمن، ومن الصين، أيضاً، ولن تعارض بريطانيا ولا الولايات المتحدة الخطة المصرية، وسيظل التحفّظ الفرنسي والإيطالي محدود الفعالية والتأثير، هذا إذا لم تقم فرنسا برفع هذا التحفّظ كلياً.
العالم مهمّته الرئيسية ستكون منع المواجهة المباشرة بين مصر وتركيا، وعلى الأرض سيدعم الحل السياسي الذي سينتج عن المعارك، وهي معارك ستعيد السرّاج في أحسن حظوظه إلى طرف من أربعة أو خمسة أطراف أخرى، وحينها سيأتي دور الحل السياسي.