لم يعد للانقسام الفلسطيني أي معنى بعد أن وصلت الحكومة الإسرائيلية إلى ما وصلت إليه وهي تتجهز للإجهاز على ما تبقى من أي أمل للفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة، ولم يعد استمرار الانقسام يعني فقط الاستهتار بالقضية الفلسطينية حد العبث بل وأيضاً بعشرات الأعوام من الكفاح الفلسطيني الطويل والمكلف والأهم أنه بات يطرح أسئلة أكبر على المستقبل وقدرة الفلسطينيين على إنشاء نظامهم السياسي.
لقد ساهم الانقسام ليس فقط في إضعاف المناعة الوطنية على مستوى الداخل الفلسطيني مساساً بالإرادة الوطنية التي تراجعت لدى المواطن، ولكن أيضاً أفقد الفلسطينيين كثيراً من الهيبة لقضيتهم ليستسهل أي كان بعدها أن يتعامل معهم بما هو أقل كثيراً مما تستحقه القضية والحالة الفلسطينية حتى على المستوى السياسي.
لكن الظرف الحالي ليس كما السابق، إذ تجري تصفية المشروع الوطني الفلسطيني من قبل نتنياهو بالتعاون مع شريكه دونالد ترامب الذي يتطوع لخدمة مشروع اليمين الإسرائيلي، هذا الظرف يفترض أنه لا يعطي الفلسطينيين أي متسع من ترف الخلاف لأن المطرقة على رأس المشروع لم تتوقف ويفترض أنها ضربت رؤوس الجميع بلا استثناء حد الإفاقة، ولم يتبق ما يمكن أن يترك متسعا للشعارات سوى أن يعيد الفلسطينيون مراجعة كل المسار، قد يكون ما حدث وما آلت إليه الأمور نتاج موازين قوى كان الطرف الفلسطيني الأكثر ضعفاً فيها على الدوام، ولكن المشهد الداخلي لا يوحي بعمق المسؤولية ولا وطأة اللحظة وثقلها.
النظام السياسي الفلسطيني برمته وفصائله لن ينجو من موجة التطرف والمؤامرة القائمة والقادمة. وحين نقول النظام السياسي نقصد السلطة وعمودها القوي حركة فتح وكذلك حركة حماس أي أن موجة الاستهداف القادمة لا تشمل الأرض والمشروع الوطني فقط بل ستستمر لتطال أدوات المشروع نفسها ورغم ما ارتكبته الفصائل من أخطاء حد الخطايا ولكنها لن تسلم من القادم.
لم يكتف الرئيس الأمريكي الهائج بتحذير الفلسطينيين في خطابه المشؤوم حين أعلن خطته من أن "هذه آخر فرصة للفلسطينيين".
هذا مفهوم ولكن التهديدات كانت أكثر وضوحاً بمعاقبة من سيقف في وجه المشروع أو من يرفضه ويقصد السلطة التي حاول خلق بدائل لها بل وبدأت عملية العقاب سواء بقطع كل المساعدات المالية وتجفيفها وإفقار السلطة أو بقطع شبكة علاقاتها الخارجية التي تم بناؤها خلال ربع القرن الأخير وتحويلها إلى ما يشبه الإدارة الذاتية.
وقد كان رفض إسرائيل لزيارة وزير الخارجية الألماني إلى رام الله نموذجا لما سيكون وتذهب إسرائيل أبعد حد إفقاد السلطة أدنى حدود الدور الوظيفي بتواصلها مع السكان في الضفة مباشرة من خلال الإدارة المدنية.
أما حركة "حماس"والتي لن تسلم أيضاً وإن كان الأمر سيختلف في شكل الدور الوظيفي القادم لكل من يدير المنطقتين الضفة وغزة.
ففي الوقت الذي تعمل فيه إسرائيل على تآكل السلطة في الضفة إلى أبعد الحدود فإن حماس مازالت مطلوبة لتمكين الانفصال بين الفلسطينيين وترسيخ الكيان الفلسطيني في قطاع غزة. ولكن الرئيس الأميركي هددها بأنها "في حال رفضت صفقة القرن فإنه لن يمنع إسرائيل من الهجوم على قطاع غزة" وهذا أمر شديد الوضوح.
مع معرفة الجميع بشخصية ترامب الكاريكاتورية حيناً والهائجة حيناً آخر وجهله بالسياسة وتهوره اللامحدود، لا يمكن التقليل من أن موقف الفلسطينيين الرافض للصفقة أعاد تصليب مواقف إقليمية ودولية كادت تتساوق مع خطته منذ لحظة إعلانها، فتراجعت نتاج المواقف الفلسطينية التي صدرت من كل الفلسطينيين، بل وعطلت الهدف الذي وضعته الحكومة الإسرائيلية منذ وصول ترامب وهو التطبيع، والذي كان يمكن أن تكون صفقة القرن الجسر إليه، ولكن الموقف الفلسطيني تحول إلى عقبة في طريقه.
سيدفع الفلسطينيون ثمن رفض التساوق مع خطة ترامب لأسباب أكثر حتى مما ذكر، وهذه المرة سيكون الثمن من الحكم الفلسطيني في الضفة وغزة؛ الضفة إنهاء شكل ودور السلطة القائم وتغييره.
وللحقيقة لم تتوصل إسرائيل حتى اللحظة إلى قرار نهائي بإزالة السلطة ولكن السلوك الإسرائيلي يعكس ضغطا بهدف تغيير ملامحها وتبهيتها إلى أبعد الحدود، فماذا ستفعل إسرائيل بعد الضم هو ما سيحدد شكل النظام في الضفة الغربية.
أما بالنسبة لقطاع غزة، فحين تستكمل إسرائيل مشروعها ستعود إلى السلاح الموجود في القطاع والذي وضعته كهدف وتستمر بالحديث فيه بالإضافة للفهم الدقيق لقبول أو عدم قبول إسرائيل للسلاح «أحد شروط كامب ديفيد خلو سيناء من السلاح وحتى حين كان التفاوض مع سورية كان شرطها أن تكون هضبة الجولان مجردة من السلاح. هذا هو الفهم الأمني لضمان "الأمة اليهودية"التي تحيطها مناطق مجردة من السلاح. وهذا يفرض استهداف غزة أو بالتحديد لسلاحها ما يعني إضعاف حركة حماس أكثر لا إسقاطها تماما كما الحروب السابقة.
بمعنى أن الهدف القادم بعد الضم سيكون استهدافا لجناحي الحكم في الضفة الغربية وغزة.
وأمام هذا القدر من الفعل الإسرائيلي يتبقى سؤال الصراع الفلسطيني قائماً يأكل كل يوم من رصيد القوى الفلسطينية ويعكس فشلها في ترتيب النظام السياسي.
لقد لعب هذا التنافس بين هذه القوى دوراً في فقدان التوازن السياسي. فقد كانت السياسات الفلسطينية على امتداد العقد ونصف العقد الماضيين محكومة بسقف الخوف من المنافس وأسقطت كثيراً من الخطوط الحمر، وجعلت أطرافه تذهب باتجاهات وسياقات أبعد مما كانت تتخيل في علاقاتها في سبيل الحفاظ على الذات لتكتشف في النهاية أن الحريق سيصل تلك الذات فما العمل حينئذ..؟
هل سنقول إن الفصائل عبثت بمستقبلها ومستقبل الوطن؟
من الذي دفع حماس لتبادر إلى طرد السلطة من غزة؟ سؤال سيظل قائما لأن هذا التاريخ سيؤرخ على أنه بداية الانحدار... هذا هو الواقع!