بصرفِ النَّظر عن توقيت إعلان سلطة الاحتلال الإسرائيلي المضي قدماً في تنفيذ برنامجها الهادف لضمّ مناطق من أراضي الضفة الغربية، فإنَّ ذلك البرنامج يستدعي فعلاً فلسطينياً، طال انتظاره، إزاء عقود متصلة من سياسات وإجراءات استعمارية توسعية، بما أفضى لجعل مساحات واسعة من الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، لكل الأغراض العملية، امتداداً للسيادة الإسرائيلية. وعليه، لم يبقَ إلا الترسيم الإسرائيلي لواقع هذه السيادة انتقائياً وفق رؤية عنصرية خالصة. السؤال المطروح هنا يتعلق بجوهر الفعل الفلسطيني المطلوب. سأحاول الإجابة عن هذا السؤال بعد تحليل مقتضب، يمهد للتدليل على الأسباب الموجبة لهذا الفعل ومبرراته.
بعد نحو عامين من الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، الذي أذن بشروع إسرائيل في تنفيذ المرحلة الأخيرة من مشروعها الاستعماري الهادف لتصفية القضية الفلسطينية، جاء إطلاق «صفقة القرن» في بداية العام الحالي ليُرسّم نتاج جهد إسرائيلي ممنهج، وخاصة من خلال مشروع الاستيطان الاستعماري الذي تبنَّته حكومات الاحتلال المتعاقبة، والذي هدف في جوهره وأساليبه إلى القضاء التام على أية فرصة لقيام دولة فلسطينية، ذات سيادة على الأرض التي احتلتها إسرائيل في عام 1967.
وكما كان متوقعاً على نطاق واسع، بادرت إسرائيل لاقتناص الفرصة التي أتاحتها الصفقة المذكورة للمضي قدماً بخطى حثيثة للإعلان، بصيغة أو أخرى، عن سلخ نحو ثلاثين في المائة عمّا تبقى من أراضي الضفة الغربية، وبما يشمل منطقة الأغوار، والتي بدونها لا يمكن لأي كيان فلسطيني أن ينعم، ولو بأي قدر، بالسيادة على أراضيه.
وبالتوازي مع ذلك، تصاعدت نبرة التحذير، على الساحتين الإقليمية والدولية، منتقلة في ذلك من مجرد الإعراب في البداية عن ضرورة تفادي محاولة فرض حل لا يقبل به الفلسطينيون، والقضاء على فرص حل الدولتين، مع التلميح إلى التأثير السلبي المحتمل لذلك كله على إسرائيل نفسها لجهة الدفع في اتجاه واقع الدولة الواحدة، وإلحاق الضرر بسعيها لتطبيع ارتباطها بالعالم العربي، إلى مواقف أكثر وضوحاً لجهة التنديد بنية إسرائيل المضي قدماً في تنفيذ حلم قادتها الأوائل وتابعيهم، في الإستحواذ والسيطرة بشكل تام على أرض فلسطين التاريخية برمتها.
إلا أنَّ أياً من ذلك لم يثنِ إسرائيل عن عزمها المضي قدماً في سياستها الهادفة، بما لا يقبل التأويل، إلى وأد حتى مجرد فكرة أي دولة فلسطينية على أرض فلسطين، مراهنة فيما يبدو على أنَّ مآل هذه الجولة من التحذير والتنديد لن يختلف جوهرياً عن الحال في سابقاتها، وخاصة فيما بدا من تسليم بالأمر الواقع، في أعقاب سلسلة من التنديد بالإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل، أو ذلك الذي أعقب الإعلان الأميركي اللاحق، بشأن رفض اعتبار الاستيطان الإسرائيلي غير مشروع بموجب القانون الدولي.
فلسطينياً، وبعد سنوات من تلويح القيادة بنيّتها الخروج من الدائرة التدميرية التي أرست معالمها الأساسية، على مدار ما يزيد عن ثلاثة عقود، عملية سياسية لم تُفضِ مرحلياً إلا لإجهاض الانتفاضة الأولى، بما مثلته من روح التحدي المقاوم، وتعاظم الشعور بالقدرة على الإنجاز، ولاحقاً لتوفير غطاء مكَّن إسرائيل من الخروج من عزلتها الإقليمية والدولية، ومن الوصول لتحقيق أقصى مطامعها التوسعية، أعلن الرئيس محمود عباس يوم التاسع عشر من مايو (أيار) الفائت بلغة واضحة وقطعية، تحلل الفلسطينيين من الالتزامات المترتبة على الاتفاقيات والتفاهمات المعقودة مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ومع أنَّ ذلك الإعلان لم يتطرق إلى الإجراءات العملية التي ستتخذ على أساسه، والتي شُرِع في تنفيذ بعض منها منذئذ، بدا مرجحاً أنه سيكون له ما بعده من حيث تداعياته وانعكاساته، وذلك على الرغم من تسرع البعض في اعتباره مجرد صدى لمواقف تم الإعلان عنها وتبنيها، في أكثر من مناسبة سابقاً، لجهة التخلي عن إطار أوسلو.
في مطلق الأحوال، فإنَّ السؤال الذي ينبغي أن يشكل محور الاهتمام الأساسي على الساحة الفلسطينية في هذه المرحلة، يتعلق بمدى قدرة الإعلان المذكور، على أهميته، على التأثير الفاعل على مجريات الأمور، أولاً لجهة وقف قطار الضم الإسرائيلي، وهو ما أتى الإعلان على خلفيته، وثانياً، وما هو أهم، لجهة إحداث تغيير جوهري في المعطيات الأساسية القائمة، والتي تأتت بشكل رئيسي من جراء إغفال «عملية السلام» للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والتآكل المضطرد في مرجعيات تلك العملية، مما أدى إلى جعل حتى مجرد التفكير في تنفيذ الضم أحادياً، من قبل إسرائيل، أمراً ممكناً.
إذا كان من المتعذر الإجابة، بقدر كافٍ من الثقة، بالإيجاب عن السؤال الأول، فلا ينبغي أن يكون هناك أي وهم بأنَّ مجرد التحلل، أو حتى التخلي نهائياً، عن إطار أوسلو سيكون مدخلاً حتى لمجرد البدء في معالجة المعطيات المذكورة.
ومع ذلك، لا يزال هنالك أمل في استحضار القدرة الكامنة للتوجه القائم على التحلل من التزامات منظمة التحرير الفلسطينية، بموجب الاتفاقيات والتفاهمات القائمة في إطار «عملية السلام»، وذلك من خلال الإعلان عن انطباق مفهوم التحلل ليس فقط على إطار أوسلو، وإنما أيضاً، من حيث المبدأ، على التحول في برنامج المنظمة الذي تم تبنيه فعلياً في إطار مبادرة السلام الفلسطينية لعام 1988. إذ، من جهة، فإن المبادرة المذكورة، والتي انطوت على التأشير رسمياً لاستعداد الفلسطينيين للقبول بدولة لهم على حدود عام 1967، لم تكن لتكون لو لم يكن هنالك توقع بتحقق ذلك، ليس فقط في أوساط القيادة الفلسطينية، وإنما على نطاق واسع عبّر عنه التفاف جماهيري غير مسبوق، لحظة إعلان الاستقلال، وتبلور درجة عالية من التوافق الفلسطيني لم يبدأ عقده بالانفراط إلا بعد مضي نحو خمس سنوات عند التوقيع على إعلان المبادئ، في إطار اتفاقيات أوسلو. وغني عن القول إن تحول عام 1988، هو ما مهَّد للسعي للوصول إلى الدولة الفلسطينية المنشودة في إطار حل الدولتين، وخاصة في إطار أوسلو.
من جهة أخرى، مع انقضاء «المرحلة الانتقالية» لاتفاقيات أوسلو، بدا جلياً أن ما تم الرهان عليه لجهة قيام دولة فلسطينية، وفق معايير مقبولة وطنياً بات محكوماً بالفشل، بسبب إصرار إسرائيل على عدم السماح للكيانية الفلسطينية التي أفرزتها تلك الاتفاقيات في أن تتجاوز مفهوم الحكم الذاتي المرسوم بموجبها، الأمر الذي كان ينبغي أن يستوجب حينئذ إعادة النظر في تحول عام 1988. إلا أن ذلك لم يحصل، وما تلا لم يكن سوى المزيد من التآكل في مرجعيات «عملية السلام» فيما مهد لتمكين القوة المحتلة من توظيف تحولات إقليمية ودولية مهمّة، بما تجلَّى، من جملة أمور أخرى، في إطلاق «مشروع ترامب»، في سعيها المحموم للإجهاز على القضية الفلسطينية وتصفيتها، والذي يشكل الضم المزمع آخر حلقاته.
وفق هذا المنظور، فإنَّ الرد الفلسطيني على مشروع الضم الإسرائيلي يمثل فعلاً وطنياً طال انتظاره، ألا وهو إعادة النظر في تحول عام 1988، الأمر الذي يستوجبه أيضاً أن مجرد تحلل منظمة التحرير من إطار أوسلو فقط، يعني تخليها عن برنامج اعتمدته من الناحية الفعلية لاثنين وثلاثين عاماً من دون التقدم برؤية بديلة، يمكن أن يلتف حولها الشعب الفلسطيني، والذي من المنطقي جداً له أن يتوقع استعداد ممثله الشرعي الوحيد لإعادة النظر، في ضوء ما آلت إليه القضية الفلسطينية في أعقاب التحول المذكور.
في ضوء الحيثيات الواردة أعلاه، هنالك حاجة ملحة لأن تتمخض إعادة النظر المطلوبة عن توافق عام بشأن المرتكزات الأساسية لجهد فلسطيني فاعل، وطنياً وإقليمياً ودولياً، لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني تستمد شرعيتها من الحق المطلق للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرض آبائه وأجداده، الأمر الذي يتطلب انعقاد لقاء وطني يضم مكونات النظام السياسي الفلسطيني كافة. كما يتطلب أيضاً، وفيما يمهد لتطوير وتفعيل منظمة التحرير بما يفسح المجال لجميع هذه المكونات للانضواء تحت لوائها، عدم الاستمرار في السماح لتعدد الرؤى وتضاربها بشأن مفهوم الحل الشامل المقبول وطنياً في إعاقة توحيد الجهد الوطني.
تأسيساً على ذلك، وكخطوة أولى على هذا الصعيد، قد يكون من المجدي السعي الحثيث للتوافق على صيغة لموقف وطني جامع، تقوم منظمة التحرير نفسها بالإعلان عنه، حول استعداد الفلسطينيين للقبول بأَيٍ من الخيارين التاليين كمخرج لعملية سياسية، تهدف إلى الوصول إلى حل مرضٍ للقضية الفلسطينية، ألا وهما:
أولًا: دولة واحدة على كل أرض فلسطين التاريخية، يكفل دستورها المساواة التامة لسائر مواطنيها، ودونما أي تمييز بينهم على أي أساس كان.
أو ثانياً: دولة فلسطينية مستقلة على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما يشمل القدس الشرقية، بكاملها، وذلك شريطة أن يسبق أي عملية سياسية تهدف لتحقيق ذلك اعتراف أممي، بما في ذلك إقرار من قِبل إسرائيل نفسها، بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني كما عرفتها الشرعية الدولية، وتحديداً، حق العودة وفق القرار الأممي 194، والحق في تقرير المصير، بما يشمل الحق في دولة مستقلة كاملة السيادة على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.
قد يتساءل البعض عن المنطق في الإدراج المتزامن لخيارين للحل، طالما تم النظر إليهما كطرفي نقيض. والجواب يكمن في ضرورة ذلك إذا ما كان لكافة أطياف العمل السياسي الفلسطيني أن توافق على موقف فلسطيني جامع في المرحلة الراهنة، مع الإدراك التام أنه من الممكن الوصول إلى مرحلة يتعذر فيها استمرار المزاوجة بين الخيارين المذكورين، الأمر الذي لن يحدث إلا إذا وافقت إسرائيل على الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني على النحو المبين أعلاه. عندها فقط، يتعيَّن حسم الخلاف على الساحة الفلسطينية لصالح خيار دون غيره. وبمعنى آخر، ووفق هذه الرؤية، لا يعود من المبرر الإصرار على حسم هذا الخلاف كشرط مسبق للشروع الفوري في إنهاء الانقسام السياسي، وبما يشمل توسيع القاعدة التمثيلية لمنظمة التحرير لتضم كافة أطياف النظام السياسي الفلسطيني.
إذا ما تم الأخذ بالصيغة المقترحة هنا كمدخل لتحقيق الشراكة الحقيقية في صنع القرار الوطني، فإنَّ ذلك بعينه سيمثل علامة فارقة في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني لجهة ما يعنيه من إصرار على أخذ زمام المبادرة، وتحمل كامل المسؤولية في سعي الفلسطينيين المشروع لنيل حقوقهم كافة. هناك الكثير من التوجهات والسياسات والتدابير التي سيتعيَّن اعتمادها كمكونات أساسية لرؤية سياسية متكاملة. وكل ذلك يمكن البت فيه بتوافق الجميع بمجرد النجاح في لمّ الشمل الفلسطيني، على قاعدة صيغة الإعلان المقترح هنا بشأن الاستعداد للقبول بواحد من الخيارين المطروحين. وأياً كان الخيار المفضل في نهاية المطاف لأي طرف فلسطيني، ولحين الوصول، أو في حال الوصول، إلى مرحلة يصبح حسم الأمر بين الخيارين أمراً ضرورياً، فإنَّه ينبغي ألا يكون هناك أي توانٍ في بذل كل جهد ممكن، من أجل النهوض بالواقع الفلسطيني على كافة الصعد، وبما يشمل على وجه الخصوص تعزيز قدرة الشعب الفلسطيني على البقاء المقاوم، وبعث الثقة لدى مكوناته كافة، وفي سائر أماكن وجوده، بالقدرة على الإنجاز.
ولعل في ذلك كله رسالة تكتسب أهمية فائقة في هذه المرحلة بالذات، لما تحمله في ثناياها من تأكيد للقاصي والداني، على عمق جديتنا والتزامنا الإصرار علي نيل حقوقنا، طال الزمن أم قصر، وعلى قناعتنا بأننا، وإن كنا مسلوبي الحقوق، فلسنا مسلوبي الإرادة، ولن نكون.
الشرق الأوسط