لم تكد السينما تظهر في العالم، حتى وجدت لها مكاناً ومهتمين ورواداً في فلسطين؛ كيف لا وبلادنا، بحواضرها الثقافية كانت من أهم الحواضر الثقافية العربية التي انطلقت منها النهضة العربية الحديثة؟!
لقد التقط الفلسطينيان الأخوان لاما، هذا الخيط الإبداعي، فقاما بإدخال السينما إلى البلاد العربية، خصوصاً في مصر وفلسطين. إنه فعل إبداعي يليق بوجه فلسطين كفاعلة في مجال الفكر والثقافة والفنون، وهي التي ارتكزت على التعليم الحديث في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
ولعلنا نلحظ وجه الشبه بين الانفتاح الفكري في فلسطين: القدس ويافا وحيفا ونابلس وغيرها، والانفتاح الثقافي والفني ومن فن السينما، الذي يعني بناء وليس فقط جمهوراً جديداً لهذا الفن، يرتاد صالات العروض، بل جمهوراً مثقفاً يؤمن بالتغيير والتحديث والتمدّن.
لقد ازدهرت السينما في فلسطين، لدرجة أن العديد من منتجي الأفلام في مصر، التي أصبحت مركز السينما العربية، صاروا يختارون دور سينما يافا لتكون مكان انطلاقة عرض أفلامهم، أي قبل أن تعرض في البلد المنشأ.
ولعلنا جميعاً قرأنا عن زيارات كبار نجوم السينما والفن العربي إلى فلسطين، لما تميزت به بلادنا من تطور وجمال وازدهار تعليمي وثقافي وإعلامي، فحفلت الصحف الفلسطينية في القدس ويافا بالحديث عن زيارات النجوم والإعلان عن حفلاتهم الفنية، من نجيب الريحاني وعلي الكسار إلى أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وأسمهان، والقائمة تطول.
لقد أصبحت عادة الذهاب إلى دور العرض عادة اجتماعية لدى الأسر الفلسطينية في المدن، بل استمر ذلك في مدن الضفة الغربية، كالقدس ورام الله وبيت لحم ونابلس وجنين، وقطاع غزة، حيث ازدهرت دور العرض وتم الاستثمار ببناء دور عرض جديدة تلبية للأعداد المتزايدة من مشاهدي الأفلام العربية والأجنبية. واستمر ذلك حتى بعد هزيمة العام 1967، إلى أن تم – للأسف - إغلاق دور السينما في الانتفاضة الأولى عام 1988.
لقد دعت السينما للتغير والتحديث، وبناء ثقافة مدينية، تتفق مع العصر، من ناحية، وبناء ثقافة عربية يجتمع عليها أبناء فلسطين هنا.
لقد كان المشاهد الفلسطيني يرى الأفلام فور عرضها في القاهرة والمدن العربية الأخرى، فينسجم مع مضامين تلك الأفلام وما تدعو له من أفكار، بحيث خلقت جواً وحدوياً عربياً.
واليوم ونحن ننظر لتاريخ بلادنا الثقافي والسينمائي، لننظر بعين الفخر والاعتزاز من ناحية، كوننا كنا فاعلين وفاعلات، وننظر بعين الرثاء من ناحية أخرى لما آلت إليه الأمور بعد نكبة شعبنا عام 1948 وهزيمة حزيران عام 1967.
وفي ظل هذين الشعورين، نجد أنفسنا اليوم على طريق الوفاء لفلسطين الثقافة والتعليم والحرية، لاستئناف نهضتنا هنا في سياق ما نأمله من نهوض عربي ثقافي من جديد.
ولعل السينما هي أحد مجالات التطوير، وهذا ما بدأنا نشهده منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين، بل لقد تطور الإنتاج السينمائي حتى ولو كان محدوداً - ووصل السينمائيون الفلسطينيون/ات إلى المهرجانات السينمائية الدولية الكبيرة في العالم.
لذلك، فإننا ننظر إلى السينما والدراما بشكل عام كمجال تثقيفي وترفيهي معاً، يتم فيها التنوير على قيم الحرية والثقافة والجمال والانتماء للأوطان والإنسانية.
وقعت تحت بصري صورة نشرتها" This week in Palestine" تظهر جمهوراً في بلدة حلحول يتابع مشاهدة أحد الأفلام عام 1940، ما يدلل على المستوى الثقافي لبلادنا، ليس في المدن الكبيرة فقط، بل في البلدات، في أوساط الفلاحين.
لقد أحب الفلسطينيون كغيرهم من شعوب العالم الشاشة السحرية، التي جذبتهم لعوالمها من قصص وروايات تم تمثيلها، فرأوا حياة الشعوب والأفراد، كما رأوا الماضي المجيد من خلال الأفلام التاريخية، فصاروا يستشرفون المستقبل بأمل، ولعل التعليم بشكل خاص هو مفتاح الإقبال على السينما والفنون وباقي عناصر الثقافة.
اليوم، وعلى الرغم من تغير علاقة الجمهور بشاشة السينما، إلا أن أهمية الدراما السينمائية ما زالت قائمة، ربما بتجليات عرض مختلفة، بعد انتشار الإنترنت، خصوصاً بوجود الأجهزة الصغيرة، إضافة لاستمرار عرض التلفزيونات للأفلام.
قبل عقود، كانت صناعة السينما تحتاج جمهوراً، من أجل شراء تذاكر دخول صالات العرض، لتغطية تكاليف الإنتاج والربح، واليوم تغيرت الأمور، وإن لم تنته بالطبع عادة الذهاب إلى السينما.
فلسطينياً، كان للعديد من المبادرات السينمائية حضور عربي وعالمي، ويمكن من خلال تلك المبادرات، عرض فلسطين من خلال الأفلام، للمشاهد العربي والعالمي، من خلال قصص وروايات بالطبع، نقدم فيه الإبداع السينمائي، وفلسطين المكان والأزمنة.
من الواضح أن الجمهور القارئ هو أيضاً جمهور محب للمشاهدة، ويمكن بتشجيع القطاع الخاص والحكومة، إنتاج عدد من الأفلام سنوياً، تظهر فلسطين الإنسانية الاجتماعية التاريخية، من خلال أفلام متعددة الطول، تصلح للعرض سنوات، بحيث تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، لتصل إلى الجمهور الفلسطيني والعربي والعالمي، تحمل بذور التوعية والتثقيف عبر الشكل الإبداعي لا الوعظي والشعاراتي.
من المهم فتح هذا المجال للتطوير والإنتاج، حيث أصبح لدينا بنية قوية، فيها عناصر الفن والتقنيات، من أجل تعميق الدور الثقافي للفن، كون السينما مجالاً تتضافر فيه جهود فنية وأدبية وإعلامية.
وستكون الأفلام دافعاً قوياً للمواطنين/المشاهدين للعودة للأدب والتاريخ.
هنالك، سنطمئن قليلاً أن نقاش حياتنا مستمراً، حيث ستكون هذه الحيوية الفنية حيوية للإعلام المتنور، على طريق استمرار التأكيد على الهوية والخصوصية وأن الاستقلال أمر ضروري لشعبنا.
تمويل الأفلام ليس بالمشكلة الكبرى، إن قدرنا الأمور، حيث إننا من خلال الفن والجمال سنقوي بقائنا هنا إلى مدى لا نهائي.
إنتاج أفلام إبداعية لا دعائية، تنتصر للعناصر الفنية والأدبية، تعرض الإنسان والمكان، فلا نحتاج لتكلف وافتعال وادعاء؛ فقضايانا وعلى رأسها قضية الوجود، هي قضايا مشروعة.
لعل الحكومة هي من تبدأ، ومن ثم يمكن إشراك القطاع الخاص والأهلي، بمبالغ لا ترهق أي اقتصاد، ولكنها كافية لبث الحيوية في أركان الثقافة والفنون.
إن أي ازدهار ثقافي يعني الكثير لنا ولشعبنا وقضيتنا، حيث سنغزو غزواً جميلاً لكل العيون التي تتابعنا، وسيكون تأثيرنا عليها عميقاً.
وستكون الثقافة والفنون من خلال السينما رافعة مهمة تضمن استقرار السلم الأهلي، ووسيلة إعلامية قوية صادقة جذابة.
نحن نتحدث عن زمن مر، لم ينته، وعن أزمان قادمة، لن تنتهي؛ فقضايانا الاجتماعية والإنسانية والسياسية والوطنية ستطول، وستطول الأسئلة والأجوبة، وما دمنا في زمن شاهد، فإننا نأمل من خلال المشاهدة أن تتوفر أهم القراءات الواعية.
عن الأيام الفلسطينية