لا شك أن سقوط ترامب خبر مفرح لأكثر من نصف الأمريكيين، ولمعظم العالم والفلسطينيين، كونه أسوأ رئيس أمريكي، كما ظهر من اتخاذه خطوات غير مسبوقة في دعم إسرائيل، وتبنيه الرؤية الإسرائيلية اليمينية الصهيونية للصراع وكيفية الحل، من خلال طرح رؤيته التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وقطعه شوطًا كبيرًا على طريق تطبيقها. ويظهر مدى تقدير اليهود الإسرائيليين لترامب أن أكثر من 70% منهم كانوا يفضّلون نجاح ترامب، خلافًا لليهود الأمريكيين الذين صوتوا لبايدن بنسبة 77%.
فوز بايدن يعني سحب رؤية ترامب وخطة الضم من الطاولة، إلا إذا أراد ترامب ونتنياهو تطبيقها كليًا، أو جزئيًا، خلال الفترة الانتقالية التي تنتهي باستلام الرئيس الجديد مهامه في العشرين من كانون الثاني القادم.
لكن احتمال الضم الكلي أو الجزئي للمساحة المخصصة في هذه الفترة وارد، لكنه غير مرجح، لأنه من المفترض بإسرائيل ألا تكون من الحماقة لتبدأ عهد الرئيس الأميركي الجديد بتحدٍ كبير، ما يؤزم العلاقات معه ومع اليهود والصهاينة الذين ضد الضم، وكذلك مع الدول العربية التي طبعت، ويمكن أن تطبع علاقاتها مع إسرائيل.
ما سبق لا يعني أن السياسة الأميركية ستكون جيدة للفلسطينيين، فهي في جوهرها داعمة لإسرائيل، والخلافات بين الرؤساء الأميركيين في السياسات والإجراءات، وليس في الجوهر، مع أن ترامب ذهب بعيدًا في دعم إسرائيل أكثر من أسلافه جميعًا.
تتضح ملامح السياسة الأميركية القادمة إزاء القضية الفلسطينية من خلال ما طرحه بايدن في حملته، وما أكدته نائبته كامالا هاريس بعد فوزهما، وهذا يعني أن من حق الرئيس الفلسطيني والفلسطينيين على وجه العموم أن يتنفسوا الصعداء، فمكتب منظمة التحرير في واشنطن سيفتح أبوابه، وستستأنف المساعدات الأميركية للسلطة ووكالة الأونروا، ومساعي إحياء المسيرة السياسية للتوصل إلى حل الدولتين، إلى جانب رفض الخطوات أحادية الجانب من الجانبين.
من حق السلطة أن تشعر بالارتياح، لأن محاولات الضغط عليها لقبول رؤية ترامب وخطة الضم ستتوقف، وكذلك محاولات استبدال القيادة الفلسطينية بقيادة أخرى مستعدة لقبولها، ولكن ستتواصل الضغوط عليها للاستمرار بالتزامات أوسلو، مع تواصل التوسع الاستعماري الاستيطاني من دون تشجيع أميركي ولا ضغط حقيقي لمنعه.
ما سبق يعني أن السلطة ستضمن بقاءها في عهد بايدن، ولكن السؤال: هل الهدف الوطني الفلسطيني بقاء السلطة، وما يعنيه ذلك من استمرار الأمر الواقع الحالي بكل مساوئه، التي أهمها أنّ التدهور سيستمر، وإن بمعدلات أقل، والتصفية للقضية تتم بالتدريج وليس مرة واحدة؛ أم اعتماد مقاربة جديدة تمنع إعادة إنتاج الأوهام والحسابات الخاطئة والخاسرة المعتمدة سابقًا، التي أوصلتنا إلى الكارثة التي نعيش فيها حاليًا، مقاربة قادرة على إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة المعترف بها كعضو مراقب أمميًا، ومن 140 دولة على امتداد العالم؟
تأسيسًا على ما تقدم، ما السيناريوهات المحتملة ما بعد فوز بايدن؟
السيناريو الأول: عودة الأمور إلى ما كانت عليه في عهد أوباما
يقوم هذا السيناريو على العودة إلى سياسة إدارة الصراع، وليس السعي لحله وفقًا للرؤية اليمينية الإسرائيلية، كما حاول ترامب ونتنياهو أن يفعلا. فكما معروف أن أوباما كما أعلن ندم على دخوله عش الدبابير عندما حاول التوصل إلى حل.
هذا السيناريو هو الأكثر احتمالًا وترجيحًا، وما يعززه بقوة أن أولويات بايدن ستكون بعيدة، على الأقل في العام الأول، عن الانهماك في حل قضية لم تجد حلًا منذ مائة عام، والدخول فيها في ظل وجود عائق ضخم متمثل في حكومة متطرفة في إسرائيل، وتعيش وسط أزمات عدة ستدفع إلى إجراء انتخابات إسرائيلية في العام المقبل، المرشح للفوز فيها أيضًا اليمين الإسرائيلي بزعامة نتنياهو نفسه، أو زعيم إسرائيلي آخر لا يقل إن لم يزد تطرفًا عنه، مثل نفتالي بينيت، أو جدعون ساعر، أو غيرهما.
يضاف إلى ذلك أن الرئيس الفلسطيني في نهاية عهده، والصراع على الخلافة، وإن بالكواليس، يحدّ من إمكانية الإقدام على خطوات ومبادرات كبيرة، خصوصًا تلك التي تتضمن تنازلات فلسطينية كبيرة يتسلح فيها الرئيس بايدن لتشجعه على المجازفة، ومحاولة التوصل إلى حل.
كما أن الانقسام الفلسطيني مستمر بعد أن أضاع طرفا الانقسام الفرصة السانحة للوحدة بوجود رئيس أميركي طرح رؤية وقام بخطوات يرفضها كل الفلسطينيين. أما الآن فما يطرحه بايدن فيمكن أن يختلف عليه الفلسطينيون.
ويزيد الأمر تعقيدًا أن ما يطرحه الرئيس محمود عباس من الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي على أساس الشرعية الدولية وكسر احتكار الرعاية الأميركية للمفاوضات، وأن الفلسطينيين في حل من الاتفاقات الموقعة؛ بعيد عما يقبله بايدن الذي يريد العودة إلى المفاوضات الثنائية، بحيث تكون الرعاية الأميركية حاضرة، ورعاية اللجنة الرباعية الدولية ما هي إلا شاهد زور ومنصة لإطلاقها، على أساس أن المفاوضات سيدة نفسها، وهذا لا يقود إلى حل، وإنما في أحسن الأحوال إلى احتواء الوضع ومنع انهياره.
وفي هذا السيناريو، يمكن أن نشهد لقاءات مباشرة أو غير مباشرة تقريبية، وزيارات فلسطينية وإسرائيلية لواشنطن، وزيارات مكوكية من وزير الخارجية الأميركية وطاقم السلام الذي سيتم تعيينه، ولكنها حركة بلا بركة، وعملية من دون سلام تستهدف احتواء الوضع، ومنحه شرعية وقوة تمنع انهياره.
كما ستتعقد إمكانية المصالحة وإجراء انتخابات فلسطينية إلا في سياق تكريس سلطة أوسلو وإدارة الانقسام وتليين مواقف حماس.
السيناريو الثاني: إقدام بايدن على طرق الحديد وهو ساخن
يقوم هذا السيناريو على إقدام الرئيس الأميركي الجديد على طرق الحديد وهو ساخن، مستغلًا الهرولة العربية للتطبيع، والرفض العالمي الواسع لرؤية ترامب وخطة الضم، حتى من صهاينة، لأسباب مختلفة، منها أنها تفتح الطريق لإقامة دولة واحدة تقضي على نقاء الدولة اليهودية، أو ترسم حدود إسرائيل من خلال إقامة دولة فلسطينية على جزء من الضفة الغربية وقطاع غزة في وقت يريد الصهاينة الأكثر تطرفًا ترك الباب مفتوحًا لطرد أعداد كبيرة من الفلسطينيين، حتى من حاملي الجنسية الإسرائيلية، بما يتيح إقامة "إسرائيل الكبرى"، مع أقل عدد ممكن من الفلسطينيين، لذلك هناك خطط مطروحة، مثل "الوطن البديل" في الأردن، وتوسيع سيناء وإقامة الدولة الفلسطينية هناك، وخطة "الإمارات السبع" وغيرها من الخطط.
هذا السيناريو مستبعد، خصوصًا أن بايدن سيحرص على عدم إغضاب إسرائيل مرة أخرى، والذي سيغضبها هو إحياء الاتفاق النووي مع إيران. ويمكن أن يتقدم بايدن أكثر في العملية السياسية إذا صحت الأنباء التي تحدثت عن أن السلطة ستعيد التنسيق الأمني والمدني وإحياء أوسلو من جانب واحد (وهذا خطأ فادح إذا حصل)، وتأخذ أموال المقاصة فورًا (المطلوب الآن وسابقًا كونها أموالًا فلسطينية) وقبل تسلم بايدن الرئاسة، وأنها وفق هذا السيناريو ستمضي بعيدًا في تقديم تنازلات جديدة تسمح بحل يتضمن "دولة" على مساحة تقع ما بين خطة ومعايير كلينتون ورؤية ترامب. وفي هذه الحالة ستبتعد المصالحة والانتخابات بصورة أكبر.
وحتى يتقدم هذا السيناريو بحاجة إلى قرار فلسطيني، خصوصًا من الرئيس، بقبول ما يمكن الحصول عليه، ويحتاج أيضًا إما إلى وحدة فلسطينية على أساس برنامج هابط مرن يتسع لشروط اللجنة الرباعية، أو ما حولها، أو ضرب حركة حماس والقوى الأخرى في قطاع غزة، بحيث لا تقدر على إحباط هذا السيناريو. كما أنه مستبعد لأن الأثمان المترتبة عليه غير مرجحة، أميركيًا وإسرائيليًا فلسطينيًا.
السيناريو الثالث: حدوث اختراق فلسطيني أو إسرائيلي أو عربي
هذا السيناريو هو الأبعد احتمالًا، ويقوم على أخذ الفلسطينيين العبرة من التجارب السابقة، التي تفيد بأن التعلق بأذيال التسوية لن يجدي نفعًا في وقت لا تقبل فيه إسرائيل أي تسوية عادلة أو متوازنة، أو تحقق أي حد مقبول من الحقوق الفلسطينية، ولا يوجد إغراء يشجع إسرائيل، خصوصًا بعد التطبيع العربي من دون مقابل سوى "تأجيل" الضم مقابل، بل على العكس يمكن أن يتواصل التطبيع، وإن بتباطؤ، بسبب موقف بايدن من عدد من الدول العربية على خلفية الحريات وحقوق الإنسان، واحتمالية عودته إلى سياسة أوباما القائمة على دمج "الإسلام السياسي المعتدل" في الأنظمة السياسية العربية القائمة، وما يعنيه هذا من فوضى ورسم الشرق الأوسط الجديد.
كما من الممكن أن تقوم إسرائيل وعدد من الدول العربية بتسريع التطبيع والتحالف للوقوف في مواجهة السعي الأميركي لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، ومحاولة سد الفراغ الناجم عن تراجع الاهتمام الأميركي في المنطقة لأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها.
يقوم هذا السيناريو إذا أدرك الفلسطينيون أهمية اعتماد مقاربة جديدة تراهن أساسًا على العامل الذاتي وإعطاء الأولوية لتوحيد الفلسطينيين وجعلهم لاعبًا واحدًا فاعلًا مبادرًا واقعيًا قادرًا على جعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل، ما يعطي للعرب وأصدقاء القضية الفلسطينية أولًا، والعالم ثانيًا، والإدارة الأميركية ثالثًا، حافزًا للتدخل لدى إسرائيل وجعلها تقبل تسوية تتضمن إقامة دولة فلسطينية على أساس حدود 67.
إن هذا السيناريو مستبعد حاليًا على الأقل على المدى المباشر، مع أنه المفضل والمطلوب، كونه بحاجة إلى تغيير كبير في فلسطين، أولًا، على مستوى تبني رؤية شاملة تنبثق عنها إستراتيجية جديدة، وقيادة قادرة على تحمل المسؤولية والتحلي بالإرادة اللازمة، والإقدام على تغيير السلطة ووضعها في خدمة البرنامج الوطني المشترك، وأداة بيد منظمة التحرير الموحدة بعد إعادة بنائها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، كما بحاجة إلى تغيير في إسرائيل لا يبدو قريبًا بل بعيد جدًا، وإلى تغيير عربي الحاجة إليه تتزايد، ولا يمكن معرفة متى يحدث في ظل ما انتهى إليه الربيع العربي الذي تنافست فيه الثورة مع المؤامرة التي انتصرت في النهاية على الثورة، لأسباب كثيرة لا مجال للخوص فيها في هذا المقال.
وضمن هذا السيناريو تكون الوحدة ضرورية والانتخابات مسألة نضالية ضمن رزمة شاملة طالما أشرت إليها.
نقلا عن "مركز مسارات"