لأيام خلت، كانت ملفات الفساد التي تطارد الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز في صفقات البنية التحتية، والشركات الوطنية، وصندوق العوائد النفطية، كما وفي التصرف وبيع عقارات للدولة، بينها جزيرة “حوض آرغين” لأمير قطر السابق، والتي تعتبر من أكبر المحميات الطبيعية في العالم.
ملفات كانت محل تندر غالبية الموريتانيين في جلسات الشاي المسائية، وكانت تسريبات اعتقال ولد عبد العزيز وتوقيفه وسحب جواز سفره، ومنعه من التجوّل خارج العاصمة نواكشوط، كما ونوعية استجوابه من محققي الشرطة، الخبر ما قبل الأول الذي تكفّل تطبيق واتساب بنشره عبر الولايات الموريتانية، لدرجة أن أخبار وباء كورونا المفترس، فشل في منافسة أخبار فساد ولد عبد العزيز وحاشيته، سيما وأن وباء الفساد أطلق ألسنة الموريتانيين في نبش بدايات تسلّق الرجل مناصب السلطة، بالوفاء تارة، وبالغدر أطوارا.
لكن وفاة الرئيس الموريتاني السابق “سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله” الإثنين الماضي، طغت على أخبار فساد ولد عبد العزيز، سيّما وأن مسحة حزن عارمة خيّمت على موريتانيا، التي أعلن رئيسها محمد ولد الغزاوني الحداد ثلاثة أيام على الراحل ولد الشيخ عبد الله، الذي حظي بتشييع رسمي وشعبي نكست خلاله الأعلام الوطنية، واتشحت التلفزة الموريتانية بالسواد، وجادت قريحة الشعر بقصائد الرثاء والبكاء، وقد أعلنت وفاة ولد الشيخ عبد الله عن 82 عامًا في مركز طبي في نواكشوط، بعد أيام من إنهائه فترة علاجية في تركيا.
ما نحن بصدده ليس فساد ولد عبد العزيز، وإنما تسليط الضوء على بعض تاريخ موريتانيا، من خلال إضاءات تلهج بها ألسنة أبناء شنقيط، وهم يودعون الرئيس السابع للجمهورية الموريتانية الإسلامية. فالرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ينحدر من أسرة ذات مكانة مرموقة اجتماعا ودينيا، وميسورة ماليا، مكنته من متابعة دراسته الثانوية في داكار السنغالية، وتحصيله على دبلوم الدراسات المعمّقة في الاقتصاد من غرونوبل الفرنسية.
يعتبر ولد الشيخ عبد الله الذي ولد نهاية ثلاثينات القرن العشرين، من الجيل المؤسّس للدولة الموريتانية بقيادة المختار ولد داده، وكان مديرا للتخطيط ثم وزيرا للاقتصاد بين عامي 1971/1978، كما كان موفد ولد داده الأول للزعيم الليبي معمر القذافي، والأهم أنه كان من مهندسي استقلال موريتانيا الاقتصادي عن فرنسا، من خلال ما عرف بصك “الأوقية” الذي شكّل خروج موريتانيا عام 1973على فرنسا المستعمرة والضامنة للفرنك الغربي الأفريقي.
وانتهى المطاف بولد الشيخ عبد الله سجينا مع وزراء حكومة ولد داده، بعد الانقلاب الذي تزعّمه العقيد “المصطفى ولد محمد السالك” في العاشر من تموز/ يوليو 1987، والذي أنهى حكم الرئيس المؤسّس لموريتانيا، وهو الانقلاب الذي جعل موريتانيا تعيش في دوّامة من الانقلابات العسكرية المتوالية، لعلّ آخرها الانقلاب الذي أطاح بولد الشيخ عبد الله بوصفه أول رئيس مدني منتخب، ونفذه الجنرال محمد ولد عبد العزيز في 6 آب/ أغسطس 2008.
وسبق لولد الشيخ عبد الله، العمل مستشارا لدى الصندوق الكويتي للتنمية بين عامي 1982/1985، كما عُيّن في عهد الرئيس السابق معاوية ولد الطايع وزيرا للمياه والطاقة، ثم وزيرا للاقتصاد والصيد البحري سنة 1986، ليدخل السجن للمرة الثانية ومعه وزير المالية ومحافظ البنك المركزي لاتهامهم بسوء تسيير مرفق الصيد البحري، لكنهم خرجوا بعد فترة وجيزة دون محاكمة، ليعتزل ولد الشيخ عبد الله بعدها السياسة لنحو عشرين عاما.
وعلى سيرة معاوية ولد الطايع، فيُحكى أن القضايا التي رفعت ضده من الزنوج، والمضايقات التي تعرض لها في أحد الفنادق الباريسية، ومذكرات التوقيف التي صدرت بحقه، شكلت السبب الجوهري الذي دفعه عام 1999 للتطبيع مع إسرائيل، التي تكفلت بالمقابل بإطفاء الحرائق القانونية والسياسية من حوله.
وتتداخل سيرة ولد الطايع مع سيرة المقدم محمد ولد عبد العزيز (الذي هو للمناسبة زوج ابنة عم ولد الطايع)، والذي لعب دورا بارزا في إفشال الانقلاب الذي تزعمه الرائد صالح ولد حننا عام 2003، وهو الدور الذي كافأه عليه ولد الطايع بترقيته لرتبة عقيد. ليحتفظ بعدها ولد عبد العزيز لنفسه بلعب نفس دور صالح ولد حننا في الإطاحة بولد الطايع إياه في انقلاب 2005 الذي زُعّم عليه العقيد اعلي ولد محمد فال الذي هو للمناسبة ابن عم ولد عبد العزيز وولي نعمته أيضا، وفي نهاية المطاف لم ينج الرئيس السابق اعلي ولد محمد فال منه انقلابا وربما اغتيالا في ظروف غامضة في بادية تيرس شمالي موريتانيا.
كما أن ولد عبد العزيز هذا، لعب دورا محوريا في الانتخابات الرئاسية لعام 2007 التي أفضت إلى فوز سيدي ولد الشيخ عبد الله (الذي هو للمناسبة أيضا زوج ابنة عم عبد العزيز) في أول انتخابات حرة تشهدها موريتانيا. وقد كافأ الرئيس ولد الشيخ عبد الله العقيد ولد عبد العزيز بترقيته لرتبة جنرال، وهي أعلى رتبة في الجيش الموريتاني، ثم كلّفه أيضا بقيادة الأركان الخاصة لرئيس الجمهورية.
بعد إقامة ولد الشيخ عبد الله في القصر الرمادي لنحو عام، واستلامه دفة حكم موريتانيا المتشاطئة مع المحيط الأطلسي والمتجاورة للسنغال ومالي أفريقيا، وللجزائر والمغرب عربيا، بدأ الجنرال محمد ولد عبد العزيز يتدخل بكل صغيرة وكبيرة، كما وبدأ في إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، وخصوصا كتيبة “بازيب”. إنها كتيبة الحرس الرئاسي الأكثر تدريبا وتسليحا وتأطيرا، وبيدها عدة شغل الانقلابات ومفاتيح القصر الرمادي معا. وعندما شعر ولد الشيخ عبد الله بذلك، أصدر أمرا بعزل الجنرال ولد عبد العزيز وأيضا الجنرال محمد ولد الغزواني (الرئيس الحالي) المحسوب وقتذاك على ولد عبد العزيز، وعيّن بدلاء عنهم.
وبعد أقل من ساعة على قرار الرئيس ولد الشيخ عبد الله، ضرب الجنرال ولد عبد العزيز الذي يعتبر أكثر من أجاد استخدام صفتي الوفاء والغدر معا، كما والأكثر خبرة وإمساكا بتفاصيل الانقلابات العسكرية إنجاحا أو إفشالا، ضرب ضربته التي أجهزت على حكم ولد الشيخ عبد الله الذي ألقي القبض عليه ومعه رئيس حكومته، لينتهي حكم أول رئيس مدني منتخب بانقلاب نفذه العسكريون الذين سبق أن دعموا وصوله إلى سدة الرئاسة وفق اتفاق بينهم لم تفك شيفرته السرية بعد.
ولينطلق بعدها حكم محمد ولد عبد العزيز بصفته رئيسا للمجلس العسكري. وحالت وساطة العقيد معمر القذافي بصفته رئيسا للاتحاد الأفريقي الذي زار نواكشوط (بعدما استجاب ولد عبد العزيز لمطلب القذافي في إغلاق السفارة الإسرائيلية)، دون تحقيق أهدافها في إنهاء أزمة الانقلاب على ولد الشيخ عبد الله، من قبل ولد عبد العزيز الذي استقال من المجلس العسكري وترشح للانتخابات الرئاسية وفاز بنسبة 52.58% من الأصوات.
وفيما أعلنت المعارضة الموريتانية عدم اعترافها بنتيجة الانتخابات واتهمت ولد عبد العزيز بالتزوير، أعلن رئيس اللجنة العليا للانتخابات استقالته وامتناعه عن الاعتراف بنتائجها بسبب ما لمسه من عيوب شابت العملية الانتخابية، وآلية فرز الأصوات.
لكن ولد عبدالعزيز لم يلتفت لكل هذا، ومضى نحو تنصيبه رئيسا لموريتانيا بتاريخ 5 آب / أغسطس 2009 ثم انتخب لعهدة رئاسية ثانية عام 2014 بعد حصوله على 81.94% أي على مقربة من الـ 99% من نسبة الأصوات، ومن دون أن تشمل سيرته الذاتية أي شيء يتعلق بتحصيله العلمي أكاديميا كان أو عسكريا، كما ومن دون أن تشمل طريقة وصول ولد عبد العزيز للحكم، وهو المتهم كما أسلفنا بقضايا فساد يضاف إليها ما ساقه النائب الفرنسي مامير، الذي وصف ولد عبدالعزيز بـ”عرّاب المخدرات” في غرب أفريقيا. وليعيد الاتهامات إياها بعد اعتذار مامير بسبب ضغوط ولد عبدالعزيز، عميل استخبارات فرنسي، عرض أيضا تسجيلا يحرّض فيه الرئيس الموريتاني السابق، مواطنا عراقيا على تزوير بعض الوثائق والعملات.
لكن ولد عبد العزيز، شأنه شأن منظومة الأمونيوم والمال والسلطة والسلاح في لبنان، فقد بقي طوال حكمه الممتد لولايتين رئاسيتين يرفع شعار “محاربة الفساد”، بل وحوّله الى وسيلة لتطويع وابتزاز العديد من رجال الأعمال، لكن سجلات الشرطة والقضاء الموريتانيين لم تش بوجود متهمين مهمين بالفساد سوى ولد عبدالعزيز وحاشيته اللصيقة.
وبالعودة الى الرئيس الراحل سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله الذي أطاحه انقلاب ولد عبد العزيز، تقول نخب موريتانية كثيرة أنه شخص زاهد، لم يوصم قانونا بالفساد الذي وُصمت به زوجته، وأنه ابن مشيخة صوفية عريقة في قريته “لمدن”، ولم يكن لديه مطمح أو مطمع بالرئاسة والسياسة سوى كخدمة عامة يؤديها في سبيل بلده ومواطنيه. كما إنه قاوم الانقلاب ولم يخضع للانقلابين، متحملا السجن والإقامة الجبرية. وقد خاب مسعاه ومسعى الأحزاب التي ساندته دفاعا عن الديمقراطية في إفشال الانقلاب، ما اضطرهم للتوصل الى اتفاق سياسي بين المعارضة والانقلابين في داكار عاصمة السنغال.
وخلال احتفال كبير شهدته نواكشوط بتاريخ 27 حزيران/ يونيو 2009 وقع الرئيس ولد الشيخ عبد الله مراسيم إقالة حكومته وتعيين الحكومة المعينة من المجلس العسكري والمتوافق عليها مع المعارضة المتضامنة معه، وألقى خطابا ترك أثرا بليغا في نفوس الموريتانيين وخصوصا لجهة قوله “.. وإلى الذين حملتهم الظروف الاستثنائية، التي مرّ بها البلد، على النيل مني شخصيا أو من آخرين حولي بسببي، فوجهوا إلي وإلى من معي ومن حولي، سهام الاتهام بدون بيّنة ولا برهان، وبالغوا في تحميلنا أوزارا نحن منها براء.. إلى هؤلاء أتوجه فأقول: لا تثريب عليكم.. اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين”.
وإذ يعتبر بعض الموريتانيين أن الظروف والزمن لم يمنحا ولد الشيخ عبد الله الفرصة الكافية التي تمكنه من الإنجاز، ومع ذلك يحفظون له إضافة لتكثيفه التشاور مع المعارضة، ترخيصه للإسلاميين تأسيس حزب “التجمع الوطني للإصلاح والتنمية”، كما وسعيه خلال فترة حكمه القصيرة التي اتسمت باتساع مساحة الحريات، إلى محاولته تقليم أظافر المؤسّسة العسكرية.
وبعد طي صفحة الانقلاب، اعتزل سيدي ولد الشيخ عبد الله العمل السياسي، وعاد إلى مسقط رأسه ليمضي بقية عمره إماما لمسجد قريته “لمدن”، وفي الأيام الأخيرة لولد الشيخ عبد الله، نقل عنه قوله، “إنه يغفر لولد عبد العزيز كل شيء، إلا صفعة وجهها له حتى سال رعافه”.
"الغد"