بعد قرابة شهر من الاقتتال، بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وأكثر من 40 ألف لاجئ فروا بأرواحهم من الموت إلى معسكرات لاجئين قديمة مهجورة بالسودان أعيد فتحها على عجل، ومئات القتلى من المدنيين، دخلت يوم السبت الماضي (28-11-2020) قوات الحكومة الفيدرالية الإثيوبية مدينة «ميكيلي»، عاصمة إقليم تيغراي في شمال البلاد، على الحدود مع إريتريا والسودان. وأعلن رئيس الوزراء، آبي أحمد، نهاية العمليات الأمنية ضد الإرهابيين في الإقليم التي بدأت يوم 6 نوفمبر (تشرين الثاني) المنقضي، وتعهد بمطاردة قادة جبهة تحرير تيغراي الفارين، وتقديمهم للعدالة.
ما يدركه رئيس الوزراء الإثيوبي جيداً هو أن سقوط مدينة «ميكيلي» ليس نهاية الحرب، بل الأصح: نهاية أولى مراحلها لا غير؛ وأن الحرب في تيغراي ستدخل - قريباً - مرحلة أخرى أكثر تعقيداً وضراوة، وبأشكال مختلفة، وستكون أطول زمناً وأكثر خسائر للطرفين؛ وأن دخول قواته عاصمة الإقليم لا يعني أن قادة الجبهة وكوادرها المقاتلة وأنصارها قد رفعوا الراية البيضاء، وقبلوا التوقيع على وثيقة هزيمتهم، لأن ما حدث فعلياً - استناداً إلى ما نشر من تقارير - هو أنهم، أمام ضراوة وقوة الهجوم الاتحادي، اختاروا الانسحاب من المدينة لتقليل خسائرهم، ولإدراكهم أن مقاومتهم لن تكون مجدية، وفضلوا التراجع نحو جبال عرفتهم ويعرفونها منذ أيام حرب العصابات ضد نظام منغستو الماركسي الذي أسقطوه، مع حلفائهم، بقوة بنادقهم في عام 1991.
حين تحدث جريمة في فرنسا، يقول الفرنسيون: ابحث عن المرأة. وحين تشب نار حرب أهلية في دولة بأفريقيا، يقول التاريخ: ابحث عن الخلافات الإثنية والقبلية والجهوية. وما حدث في تيغراي، خلال شهر نوفمبر، لا يخرج عن هذا السياق، رغم رفض رئيس الوزراء الإثيوبي لإطلاق تلك الصفة على الحرب التي أعلنها وقادها، وإصراره على أنها عملية أمنية داخلية موجهة ضد مخالفين للقانون. وللسبب ذاته، رفض بعناد قبول الوساطات الدولية التي عُرضت.
ما يعده السيد آبي أحمد مخالفة للقانون، يرفضه خصومه التيغرانيون، ويدخل واقعياً ضمن دائرة صراع دموي على السلطة، في بلد فيدرالي تتنازع ولاءاته القبلية والإثنية. وأن من وصفهم بالمخالفين للقانون، ليسوا في واقع الأمر مجرمين عاديين أو إرهابيين، بل خصوم سياسيون وقادة لفصيل سياسي عسكري (إثني) كان في مركز القيادة في حركة كفاح مسلح ضد الحكم السابق، وبعدها تربع على رأس الهرم السياسي في أديس أبابا لمدة 27 عاماً.
واستناداً إلى الكاتب الإثيوبي - الإريتري سليمان أدونيا، فإن «الإثنية، وليس الآيديولوجيا أو الاقتصاد، هي محرك السياسة في إثيوبيا». وإن تلك الإثنية، وإن تحددت جغرافياً بمناطق ومدن، فإنها متداخلة مزدوجة ديموغرافياً؛ ذلك أن كثيراً من الإثيوبيين ينتمون إلى أكثر من عرق إثني. وعلى سبيل المثال، فإن رئيس الوزراء آبي أحمد ينتمي إلى عرقين اثنين، هما: الأمهرة والأورومو. وقد انعكس ذلك في تكوين الدولة التي اختارت دستورياً نظاماً فيدرالياً، بأساسات إثنية. ويلاحظ مراقبون أن هذا النظام يقوي النخب القبلية، ويزيد في تغذية الروح القبلية، وأنه سبب مشكلات إثيوبيا، لأن كثيراً من القبائل ما زالت تتقاتل في سبيل مُلكية مدن كان من السهل عليهم جميعاً مشاركة العيش فيها وتطويرها معاً. ويرى أولئك المراقبون أن التطهير العرقي في إثيوبيا عملية متواصلة لن تعرف توقفاً. ويعزون ذلك إلى انتهازية بعض النخب السياسية، وحرصها على استغلاله بغرض تبرير فرض الفصل العرقي. ويوضحون أن جبهة تحرير تيغراي، بعد إسقاط النظام السابق، كانت هي وراء فرض الدستور الجديد، بهدف حرمان الأقليات الضعيفة الموجودة داخل الأقاليم الإثنية المنتصرة من حرياتها. ويضيفون أنه في الوقت الذي اندلعت فيه الحرب، فر كثير من التيغرانيين إلى معسكرات لاجئين في السودان، في حين أن آخرين من بني جلدتهم ممن يقيمون في الجنوب، احتفوا في الأسبوع الماضي بنجاح القوات الفيدرالية في تحرير الإقليم من سيطرة الجبهة.
التقارير الإعلامية مؤخراً تشير إلى إصرار قادة جبهة تحرير تيغراي على مواصلة الحرب، وتغيير مطالبهم إلى حق تقرير المصير، بدلاً من المطالبة بمزيد من صلاحيات الحكم الذاتي. كما تحدثت التقارير، مؤخراً، عن نشوب حرب إعلامية شرسة عقب سقوط ميكيلي، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، بين الطرفين، وأن مفردات مثل «ديكتاتور» و«رئيس غير منتخب» و«إبادة جماعية» باتت تتردد في مواقع التيغرانيين، وفي الجهة الأخرى يصف الإعلام الرسمي قادة الجبهة بـ«الإرهابيين» و«الخونة».
التقارير الإعلامية، أيضاً، تشير إلى قدرة الجبهة على تجنيد قرابة 200 ألف مقاتل تيغراني، آخذين في الاعتبار ما اكتسبه قادة الجبهة من خبرات خلال حربهم ضد النظام السابق. وهذا يعني أن الاستقرار الموعود في إقليم تيغراي سيكون هشاً، وتحت حراسة دائمة. أضف إلى ذلك، أن إريتريا - وفقاً للمراقبين - لن تكون في مأمن من لهيب نيران أي معارك مقبلة.
"الشرق الأوسط"