ربما يسجل التاريخ الإنساني قبل السياسي، يوم 5 فبراير 2021، كأحد أهم محطات التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني، عندما قررت المحكمة الجنائية اعتبار ولايتها القانونية تشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة، حسب قرار الأمم المتحدة 2012، في الضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية المحتلة.
وأكدت قيمة القرار، نيابة المحكمة الجنائية التي رحبت "بفرض الوضوح القانوني في مسألة الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية في هذه الحالة... وتدرس بدقة هذه الخطوة لتعلن لاحقا قرارها حول الخطوات التالية، انطلاقا من ولايتها المستقلة وغير المنحازة تماما، والتزاماتها بموجب نظام روما الأساسي".
للمرة الأولى في الصراع الفلسطيني مع دولة الكيان، تنتقل المسألة من سراديب السياسية والأمم المتحدة، التي أصدرت من القرارات لصالح فلسطين، ما يبني دولا وليس دولة، لكنها دوما كانت تجد العقبة عبر جدار الصد الواقي في واشنطن، رغم القيمة الكبرى لتلك القرارات في سياق الصراع الشرعي مع دولة الكيان.
قرار المحكمة الجنائية الدولية، وتأكيد نيابتها حق الولاية على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، رسم بوضوح لا غبار عليه، حدود الدولة الفلسطينية، دون مساس أو تعديل، وتلك مسألة جوهرية في المعركة القادمة، خاصة لجهة إعلان دولة فلسطين دولة تحت الاحتلال وفقا لقرار الأمم المتحدة 19/ 67 لعام 2012، لتنتقل القضية من حال مرتبك سياسي الى حال قمة الوضوح السياسي.
قرار الجنائية أنهى موضوعيا، الفترة الانتقالية التي طال أمدها 4 أضعاف ما كان متفق عليه في اتفاق اعلان المبادئ "اتفاق أوسلو"، حيث كان يجب أن ينتهي موضوعيا عام 2000، لكن دولة الكيان المحتل، اعادت عمليا احتلال الضفة والقدس، وأغلت جوهر الاتفاق، ومارست أوسع عملية تهويد وضم، ونشر الاستيطان، ما يضعها ليس دولة احتلال فحسب، بل دولة إجرام لصوصي، بما فعلته من تغيير في هوية أرض وسكان.
فالتهويد القائم على الاحتلال، ليس مظهرا عنصريا فحسب كما يعتقد البعض، بل هو جريمة حرب كاملة الأركان، من حيث جوهره، وأكثر خطورة من الاستيطان ذاته، ويفوق عمليات الضم التي قامت بها حكومات الكيان منذ عام 2004 حتى تاريخه.
قرار "الجنائية الدولية" بتجاوز الاتفاق الموقع عام 1993، يمثل نقلة نوعية – استراتيجية، ويفتح الباب بوضوح أمام حقيقة دولة فلسطين قانونا وسياسة، ولا يجب أن تبقى قيود "المرحلة الانتقالية"، ما يحكم الثقافة الرسمية الفلسطينية.
قرار "الجنائية الدولية"، لا يقتصر أبدا على ملامح المطاردة عن الجريمة المباشرة، بل هو باب صريح لكل الجرائم الإنسانية منها، وما يتعلق بالأرض وخاصة مسألتي "التهويد والضم ومعها الاستيطان"، حيث تمثلان الجريمة الأكبر التي تستهدف البعد الكياني لشعب وهويته المعترف بها رسميا، ليصبح قوة دفع كبيرة لقرار الجمعية العام 2012.
الحدث الجديد، يجب أن يكون القاعدة الرئيسية للحركة الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية، ولعل الأمر يحتاج إعادة تنشيط "خلايا العمل" التي بدأت للدفع نحو ذلك القرار، وأن تفتح ورشة عمل سياسي حقيقي كي لا يصبح القرار التاريخي مجرد حالة "احتفالية"، خاصة وقيمته القانونية تتطابق كليا مع الهدف السياسي الفلسطيني.
الترحيب اللغوي لا يكفي للبدء في التعامل مع القرار، بل يجب إعادة الروح لما سبق من لجنة قادها الراحل الكبير د.صائب عريقات، والذي يجب أن ينال حقه تقديرا، رغم الغياب لما بدأ من فعل لصناعة الحدث الأهم في المؤسسة الجنائية دوليا.
ودون رضوخ لأي محاولة ابتزاز محليا أو دوليا، يجب على رئاسة فلسطين وحكومتها أن تنتقل فورا من "الترحيب الحار" الى "المتابعة التنفيذية"، وخارج حسابات "المساومة" أو "صفقة جديدة" تعيد ذاكرة الصفقة السوداء في تقرير غولدستون، عندما تنازلت الرسمية الفلسطينية عن حق كان له أن يعيد رسم مشهد بأكمله.
دون ملامة لما كان، يجب الانطلاق فورا كي يصبح القرار قاطرة قانونية لدعم الهدف السياسي الفلسطيني في مطاردة دولة الكيان، وحصارها في كل مكان...فهناك كل ما يمكن فعله، لو اريد حقا فعل ذلك، وأخذ حق شعب اعتقدت الحركة الصهيونية ودولتها أنها تمكنت منه...دون حساب لمحطة تاريخية تكسر مشهد الظلامية الذي طال أمده.
نعم.. دقت ساعة الانتماء لوطن وقضية عبر قناة عمل قد تكون الأهم منذ عام 2000 حتى تاريخه، وعلها تكسر ظهر الانقسام بعد أن فشلت كل أدوات حصاره...
قرار 5 فبراير 2021 سيبقى محطة فصل بين يوم ويوم، بين حدث وحدث...وسلاما لروح كل ما غادر قبل أن يرى ما حدث انتظارا ليوم قيام دولة فلسطين بلا احتلال!
ملاحظة: ربما يغير أهل اللغة تعريف الانتهازي لتستبدل الكلمة باسم "نتنياهو"...تخيلوا أنه يعمل على توزير عربي مسلم سني استغلالا لما يمثل وليس حبا بما يمثل، بعد أن سرق دعما "إسلامويا"!
تنويه خاص: عزب العلايلي فنان من طراز خاص، مثقف منتم لشعب ووطنه مصر، لكنه كان عاشق لفلسطين القضية والشعب..سافر الفنان الكبير وترك كل ما يبقيه حيا..سلاما لروحك أيها الفارس النبيل عزت!