واضح أن ما تطلق عليه الصحافة في اسرائيل بقضية «قطر غيت» أخرجت نتنياهو عن طوره حد الجنون ليقرر إقالة رئيس «الشاباك» رونين بار الذي فتح تحقيقاً حول تلقي موظفين في مكتب رئيس الوزراء ملايين الدولارات من الإمارة الخليجية الصغيرة قطر. وهناك اشتباه بعلاقة لنتنياهو بالأمر وهو الذي يحاكم في ملفات فساد حاليا.
يشير العارفون في اسرائيل إلى أنه لا يمكن أن يتلقى موظفون في مكتب نتنياهو ملايين الدولارات من قطر دون معرفة نتنياهو الذي يعرف دبيب النمل في مكتبه، وربما هذا ما جعله يعلن الحرب على رئيس «الشاباك» وكلمة «الشاباك» مكونة من ثلاثة أحرف «ش ب ك» اختصاراً لـ»شيروت بيتاخون كلالي» وتعني خدمات الأمن العام، وهو الجهاز الذي يملك صلاحيات كبيرة في الداخل الإسرائيلي بعكس «الموساد» الذي يعمل في الخارج ولا يملك سوى مقر مركزي من مبنى من طابقين في تل أبيب لأن جميع عناصره وموظفيه يعملون في الخارج، أما الموظفون في تل أبيب فوظيفتهم تحليل سيل المعلومات الواردة بعكس «الشاباك» الذي ينتشر بكثافة متابعاً كل شيء بدءا من مراقبة الأحزاب في اسرائيل والمناطق الفلسطينية وحراسة المسؤولين بمن فيهم رئيس الوزراء. فليس هناك حرس ملكي أو جمهوري في اسرائيل بل هي مسؤولية «الشاباك» المكلف حراسة الشخصيات العامة وهو مفوض بصلاحيات واسعة تصل حد الرقابة على الأداء الحكومي.
ليس المهم هنا تفصيل صلاحيات المؤسسات في اسرائيل بقدر طبيعة الحدود بين تلك المؤسسات ودور القانون والقضاء كجهة تعلو على كل المؤسسات، وهو ما ساهم بتعزيز الدولة وتقديمها للمجتمع الدولي كدولة قانونية لعب فيها القضاء دوراً مهماً في تعزيز حضورها وتعاطي العالم معها كدولة متقدمة تحترم القانون، وهو الأمر الغائب في الدول العربية التي تبدو في نظر العالم مجرد مؤسسات فاسدة تدوس القوانين باستخفاف واحتقار شديدين كأنها ملكت الدولة تعبث فيها كما تشاء دون رقابة.
على هامش الحدث، كان لافتاً في اللحظة التي قررت فيها الحكومة إنهاء خدمات رئيس «الشاباك» كيف استنفرت مؤسسات الدولة والمجتمع للدفاع عن نفسها وتقاليدها ضد تغول السلطة التنفيذية والتصدي لها، وتلك واحدة من أبرز عوامل القوة في اسرائيل. فقد أصدرت المؤسسة القضائية ممثلة بالمحكمة العليا قراراً بتجميد إقالة رونين بار وتحديد جلسة سريعة للبت في الالتماسات قبل دخول موعد الإقالة الذي حددته الحكومة حيز التنفيذ، فالسلطة القضائية التي عمل القاضي أهارون باراك منذ تسعينيات القرن الماضي على إحداث ثورة فيها وإعطائها صلاحيات هائلة تعلو على الكنيست والحكومة لضمان الرقابة على عمل الجميع لدرجة قدرتها على منع تعيين رئيس حزب منتخب مثل أرييه درعي من أن يكون وزيراً وتلك كانت واحدة من أبرز عوامل المناعة لدى اسرائيل.
لم يكن المجتمع أقل قوة في الوقوف في وجه الحكومة، فقد اتضح ذلك منذ بداية الحرب والتظاهرات التي ملأت شوارع تل أبيب والتي تقودها المعارضة والمؤسسات المجتمعية، لكن هذه المرة تداعت مؤسسات أخرى للوقوف في وجه الحكومة لحظة قرارها بتجاوز القانون، فرئيس اتحاد العمال «الهستدروت» أرنون بار دافيد وهو أكبر قطاع نقابي في اسرائيل قال، «لن أسمح بالمساهمة في تدمير المجتمع .. إن عدم تنفيذ قرارات المحكمة العليا هو الخط الأحمر الذي لا يجوز تجاوزه وليس في نيتي أن أبقى صامتاً بينما يتم تفكيك دولة اسرائيل».
أما منتدى رجال الأعمال الذي يمثل 200 من كبار قادة الاقتصاد فأصدر بياناً تهديدياً جاء فيه «في حال لم تحترم حكومة نتنياهو قرار المحكمة وجرت البلاد نحو أزمة دستورية فسندعو جميع المواطنين في اسرائيل إلى التوقف عن الامتثال لقرارات الحكومة وسنعمل على شل الاقتصاد». أما الهيئة الإسرائيلية للتكنولوجيا والهايتيك التي تضم عشرات من كبرى شركات التكنولوجيا وصناديق الاستثمار فقد أعلنت «سنوقف عمل الشركات إذا لم تلتزم الحكومة بقرار المحكمة العليا الذي يأمر بتجميد إقالة رئيس (الشاباك) وأن انتهاك قرار المحكمة أو أي قرار قضائي آخر هو خط أحمر إذا قررت الحكومة دفع اسرائيل نحو أزمة دستورية سنوقف عمل الشركات».
الكثير يتساءلون عن قوة اسرائيل مركزين على قوتها العسكرية فقط، فللقوة عوامل ليست العسكرية سوى نتاج نهائي أو انعكاس لها، كل تلك العوامل الغائبة لدى المجتمعات العربية التي لا يعني لها القانون أي شيء بل تنكل به النظم العربية بلا أي اعتبار لمجتمعاتها وهنا أزمة مجتمعات تدار بالفوضى والقوة سواء تمتلكها الدولة أو القبيلة أو قوة المال بينما القانون هو الطرف الأكثر مهانة.
بعض الكتاب يشيرون لدول عربية آخذة في النهوض وصناعة نموذج معتمدين على معايير المال والبناء والتكنولوجيا، لكن ما جدوى ذلك لمواطن مذعور ودولة يقودها فرد أو منظومة دكتاتورية تحتقر القانون وأجهزة أمن مخيفة للمواطن ومسؤولين يتم تعيينهم وفصلهم على المزاج ولا ناظم يضمن علاقة سوية ين الدولة والمواطن. وإذا كانت اسرائيل قوية بفعل ذلك فالبشرى لخصومها أن عوامل المناعة تلك بدأت تتآكل مع حكومة اليمين التي تستهدف الدرع القضائي لتبدأ بالنزول نحو العالم الثالث.