غزة – علي أبو عرمانة: "أنا ذاهب إلى فلسطين" هذا ما قاله الزعيم الراحل ياسر عرفات، يوم الثلاثين من أغسطس/آب 1982، وهو يغادر العاصمة اللبنانية بيروت، بعد نحو ثلاثة أشهر من القصف المتواصل، سأله الصحفيون "إلى أين الطريق يا أبا عمار؟"، فاجأ الجميع وقال إلى فلسطين.
ركب عرفات سفينته المتجهة إلى تونس مرتدياً بزّته العسكرية، وحاملاً سلاحه وعقله يفكر في فلسطين، وأدرك تماماً أن الخروج من بيروت ألغى مقولة "التحرير من الخارج"، وبدأ ومعه رفاق دربه خليل الوزير وصلاح خلف، في التأسيس لمرحلة جديدة من النضال الثوري، تقوم على مبدأ تحرير الأراضي المحتلة من الداخل، وهذا ما ترجمه إطلاق شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى يوم الثامن من ديسمبر/كانون الأول 1987، ووصولاً إلى توقيع اتفاقية أوسلو عام 1994 والتي عاد بموجبها إلى فلسطين بعد 12 عاماً على الخروج من بيروت.
حدث أسطوري
في تمام الساعة الثالثة من عصر الأول من يوليو/ تموز1994، كانت فلسطين على موعد مع حدث أسطوري، حين عاد الخالد عرفات إلى الأراضي الفلسطينية وتحديداً إلى قطاع غزة بعد غياب قسري دام لأكثر من 27 سنة، قبّل أرض الوطن، وأدّى الصلاة شكراً وحمداً لله على العودة.
تحولت الأسطورة إلى واقع، واندفعت عشرات الآلاف من الفلسطينيين بغزارة تتحسس شيئاً منها لتصدق أنه مثلنا وفينا وبيننا، بعد أن أوغل في رمزيته حد الأسطورة، كانت تلك هي المرة الأولى التي يعود فيها إلى أرض الوطن، ليس كفدائي متخفٍ، بل كزعيم معزز باعتراف دولي وأمام عيون الملايين في العالم، الذين تابعوا عبر الشاشات مشاهد عودته.
كان فصلاً جديداً في تاريخ شعب اعتاد الرحيل بين العواصم، حالماً بعودة تجسدت رمزيتها بعودة بطلها بعد أن طالت رحلة المنفى قبل أن يعود مقبلاً الأرض؛ كانت الجماهير تنتظره على أحرّ من الجمر، كانت لحظات مفعمة بالعواطف والمشاعر وكان الصخب هائلاً كون المشهد تاريخياً، اكتظ ميدان الجندي المجهول في غزة الذي أمر عرفات بإعادة نصبه فور عودته، بعشرات الآلاف من المتعطشين إلى رؤية قائدهم، تدافعت الحشود من كل الجهات على الرئيس، كانت الطرق مزينة بالأعلام الفلسطينية وبصور عرفات، تسلق الشبان الأشجار والأسطح؛ ليشاهدوا عن بعد ذلك الفدائي العائد الذي يرمز إلى الحرية والكرامة، كانت جميع وسائل الإعلام الدولية تحتشد في غزة لمتابعة مسيرة رجل لم يتوقف عن السير والتنقل، متسائلة هل هي محطته الأخيرة؟ وهي التي اعتادت على ملاحقته، وما إن ظهر على الـمنصة، حتى اندفع الجمهور كموجة هائلة نحوه، محطماً الحواجز، كاسراً سياج رجال الأمن، ليلقي أبو عمار خطابه الأول على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
جباليا مفجرة الثورة
توجه أبو عمار بعد ذلك إلى مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، المخيم الذي انطلقت منه الانتفاضة الأولى عام 1987، استقبل بحفاوة بالغة من آلاف الفلسطينيين الذين حملوه على الأعناق، وألقى خطابه الذي قال فيه، "لنتحدث بصراحة، قد لا تكون هذه الاتفاقية ملبية لتطلعات البعض منكم، ولكنها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه من تسوية في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة".
يوم تاريخي
بدوره، استذكر قائد تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، النائب محمد دحلان، تلك اللحظات الفارقة من تاريخ القضية الفلسطينية، واصفاً ذلك اليوم بالتاريخي والمشهود، وأنه لايزال يتذكر تلك اللحظات.
وقال القائد دحلان، الذي رافق أبو عمار طوال سنين نضاله، "ذاكرة الشعب الفلسطيني ليست قصيرة لكي تنسى ذلك اليوم التاريخي الذي دخل فيه ياسر عرفات الذي كان يحلم طيلة حياته بالعودة الى فلسطين، وأن تطئ قدماه أرضها"، مضيفاً، "في اللحظة الأولي التي عاد فيها إلى قطاع غزة صدقنا شعاره الذي كان على الدوام محط استهزاء واستنكار وأحيانا استغراب، حين خرج من بيروت وقالوا له أين أنت ذاهب قال سأعود إلى فلسطين، وبعدها بسنوات عاد بكوفيته وسلاحه وزيه العسكري وجيشه من المهجر إلى الداخل ليبدأ بناء الدولة الفلسطينية".
وتابع، "لا أستطيع أن أصف تلك الفرحة التي غمرت عيني ياسر عرفات وقلبه وعقله في اليوم الاول الذي نام فيه في قطاع غزة مستمعاً إلى هدير بحره، واصطحبا إلى شرفة فندق فلسطين لكي تأكد أنه يستمع حقاً إلى بحر غزة".
أسطورة حية
في اليوم التالي، طاف ياسر عرفات، بسيارته شوارع قطاع غزة، متوقفاً من حين لآخر لمصافحة المواطنين وسط اجواء حماسية ووطنية، وأمر رجال الأمن بأن يسمحوا للجماهير بالاقتراب منه لمصافحته، اندفعت الجموع وتخطت طاقم الحرس الخاص بالرئيس، واحتضنت زعيمها بعد طول غياب.
وفي الثالث من يوليو/ تموز 1994، انتقل عرفات من غزة إلى أريحا على متن طائرة مروحية، كان في استقباله عشرات الآلاف من الفلسطينيين، انهار حاجز الأسلاك الشائكة الـمزدوج الذي يحمي الـمنصة تحت ضغط الجماهير، وهتف عرفات مطولاً مع الـمتظاهرين بـ"الروح بالدم نفديك يا فلسطين"، بكى الكثيرون تأثراً في لحظات وطنية تاريخية تستحضر التضحيات، وتعطي أملا بأن التحرر من الاحتلال قد بدأ فعلاً.
وأدت الحكومة الفلسطينية الأولى برئاسة ياسر عرفات، اليمين الدستورية في المقر الجديد للسلطة الوطنية في مدينة أريحا بالضفة الغربية، وردد عرفات، ومن ورائه 12 وزيراً "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً لوطني، ولقيمه المقدسة ولترابه الوطني، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أعمل لمصلحة الشعب الفلسطيني، وأن أقوم بواجبي بإخلاص.. والله شاهد على ذلك".
في الثاني عشر من يوليو/ تموز، عاد عرفات مجدداً إلى القطاع، وتوجه إلى مكتبه في "المنتدى" بمدينة غزة، وعقد أول اجتماع مع زملائه في القيادة الفلسطينية لأول مرة على أرض الوطن، ليبدأ معركة بناء السلطة وإقامة مؤسساتها.
كان سعيداً بعودته أكثر من آلاف الجماهير التي استقبلته، كان يستقبل الجميع ويصافحهم بحرارة المشتاق، التقط معهم الصور ببراءة طفولية لم تحقق وطناً، ولكنها حققت أرقى أشكال العلاقة الإنسانية بين قائد مر كالبرق وشعب هو الأكثر حزناً عليه في التاريخ، كانت ابتسامته تخفف جميع مآسيهم، ويده تضمد جراحهم.
كان يصنع الأمل لشعبه المكلوم لذلك ظل أسطورة حية لا زالت تنبض في قلب كل فلسطيني.