لم تجد مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية الرصينة حرجاً في وصف الولايات المتحدة بالأمة الغافلة أو المستغرقة في غفوتها، على الرغم من الخطر الداهم الذي تواجهه. الكلمات القاسية التي استخدمتها المجلة على غير العادة كانت ضمن تقرير نشرته الأسبوع الماضي عن الإرهاب الداخلي، باعتباره التحدي الأمني الحقيقي والأكبر الذي يهدد البلاد حالياً.
تستغرب المجلة، وهي تقارن بين حالة الاستنفار القصوى التي عاشتها أمريكا بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وكيف أنها جيشت العالم كله لشن حرب كونية ضد الإرهاب، ثم تعاملها الفاتر والمثير للقلق حالياً مع موجة أخرى للإرهاب مصدرها الميليشيات الأمريكية المتطرفة.
ارتبط تعبير الإرهاب في العقل الجمعي الأمريكي بالجماعات "الجهادية" التي تستوطن العالمين العربي والإسلامي، أو تتمدد بعناصرها في الغرب. لكن الضربات أصبحت تأتي من الداخل بأيدي جماعات بيضاء تعتنق أفكاراً عنصرية مقيتة، ولديها شحنات هائلة من الكراهية والحقد.
خطر الإرهابي القديم ذي البشرة السمراء والشعر الأسود واللحية، تراجع أمام الشيطان الأشقر الجديد، ببشرته البيضاء ولهجته الأمريكية التقليدية. الأول اعتاد الاختباء في جبال وكهوف ووديان أفغانستان والشرق الأوسط. والآخر مواطن أمريكي صالح، على الأقل وفقاً لسجلات الأمن، يعيش بين مواطنيه ويعمل معهم ويدفع الضرائب مثلهم، لذلك يظل من الصعب رصده ومتابعته عكس زميله الأجنبي المختلف لوناً وعرقاً وديناً، ويسهل بالتالي، رصده وإحباط مؤامراته.
أحدث جرائم الإرهابيين البيض وأخطرها وأبعدها أثراً كانت في السادس من يناير/كانون الثاني الماضي، عندما اقتحموا مبنى الكونجرس في واشنطن لعرقلة إعلان فوز الرئيس جو بايدن. ولا تستبعد المخابرات الأمريكية وفقاً لتقديرات أعلنتها قبل أيام، أن يشهد العام الحالي هجمات جديدة ربما أكثر خطورة تنفذها الجماعات اليمينية البيضاء.
وخلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، تقريراً أوضح أن ثلثي المخططات الإرهابية في 2020 دبّرها اليمين الأمريكي أو الإرهاب الجديد، والذي نفذ في 2016، هجمات أكثر من أي مجموعات متطرفة أخرى.
ومثل الإرهاب القديم تماماً، تتبنى جماعات الإرهاب الأبيض أفكاراً بالغة التطرف، ولديها أجندة سياسية ومظالم تدفعها للانتقام أو فرض رؤيتها بالقوة المسلحة. وإضافة إلى كراهيتها المزمنة "للآخر" المختلف دينياً أو عرقياً، فإن لديها مظالم جديدة باتت تشكل دوافع إضافية للعنف، في مقدمتها رفض إجراءات الإغلاق التي فرضتها كورونا، والاعتقاد بتزوير الانتخابات الرئاسة الأخيرة في إطار هوسها بنظرية المؤامرة.
تسليح هذه الجماعات ليس المشكلة الوحيدة التي تواجه أجهزة الأمن. هناك أسباب أكثر تعقيداً تقوض جهود احتواء خطرها، أهمها أنه ليس لدى السلطات تعريف واضح ومحدد لطبيعة الأفكار التي يمكن اعتبار من يعتنقها إرهابياً محتملاً، وبالتالي التعامل معه على هذا الأساس. التوجهات العنصرية وحدها ليست كافية لتحديد من هو الإرهابي. وهناك كثيرون يعتنقون بالفعل أفكاراً عنصرية لكن لا يلجئون للعنف.
سبب آخر أهم هو غياب الإجماع، حيث تسود حالة من الانقسام حول كيفية التعامل مع الظاهرة بين الديمقراطيين والليبراليين من جانب، والجمهوريين واليمين السياسي عموماً من جانب آخر. وبسبب هذا الانقسام يتم تسييس المشكلة وهي أمنية بالأساس وتحويلها إلى قضية سياسية خلافية وليست قضية أمن قومي تلتقي حولها الأمة وتؤلف بين قلوب أبنائها، كما كان الحال بعد هجمات سبتمبر/أيلول.
الأكثر من هذا، يجد المتطرفون البيض من يدافع عنهم ويوفر غطاء سياسياً لجرائمهم ويرفض شيطنة أفعالهم. وخلال الاقتراع على قرار للكونجرس لتكريم الشرطة التي دافعت عن المبنى، صوت 12 نائباً جمهورياً ضد القرار.
في ظل الانقسام بين النخب السياسية بشأن الإرهاب المحلي من الطبيعي أن يتبدد الإجماع الشعبي حول خطورته، والوعي بأهمية التصدي له بنفس الزخم الذي عرفه الأمريكيون خلال الحرب ضد الإرهاب الأجنبي. وعلى حد قول "فورين بوليسي" دقت هجمات سبتمبر/أيلول، ناقوس الخطر وأيقظت الأمة الأمريكية، إلا أنها عادت الآن لتغط في نوم عميق. وأكثر ما يثير الفزع هو أن تستيقظ على دوي كارثة جديدة.
الخليج