حتى ساعة كتابة هذا النص، كان أربعة من الأسرى الذين حققوا إعجاز الخروج من سجنهم مُحكم الإغلاق ومُشدد الحراسة؛ قد وقعوا مرة أخرى في قبضة الاحتلال. لكن الستة الميامين مجتمعين، ومهما تكن النتائج، سجلوا سابقة مبهرة وكثيرة الدلالات، اختبرت المزاج الشعبي فأكدت بما لا يقبل الشك، وبعد تفشي كل أسباب القنوط، على أن المقاوم، أسيراً كان أو طليقاً، هو الإنموذج القادر على صياغة إجماع شعبي على خياراته، باعتبار أن المقاومة، هي السبيل الوحيد الى الحرية، لا سيما في أوضاع ووقائع انسداد السياسة، وغطرسة العدو، وترهل الأطر التي على مقربة من مسرح الحدث، لأسباب موضوعية وذاتية!
ليس هذا الكلام، محاججة إنشائية أو عاطفية. فمنذ بداية الحدث، قلنا أن ما صنعه الأسرى الذين تمكنوا من تحرير أنفسهم، استطاعوا اختراع معادلة جديدة تدعو الى الفخار. ونقول الآن بعد إعادة أربعة منهم الى السجن، بمفاعيل الإنتشار الأمني المُعزز بكل مقومات المطاردة الساخنة، الإستخبارية والرقمية واللوجستية؛ أن احتمال العثور على رفيقي الأربعة اللذيْن ما زالا حتى الساعة طلقاء، واردٌ وغير مستبعد. فقد حدثت العملية الجسورة، في أراضي احتلال 1948 بعيداً عن مطارح يعثر فيها المناضلون على مكمامن مناسبة، يحصلون فيها على مساعدة إعاشة طويلة الأمد. وكان ذلك بحد ذاته تحدياً لا يقل صعوبة عن المهمة التي أنجزوها على أكمل وجه، وهي الفرار، الذي يمثل جوهر الإنجاز ومعناه البليغ.
في حرب الشعب، التي خاضتها الأمم في التاريخ، ضد مستعمريها الغالبين المدججين بالسلاح؛ كان أسلوب المقاومة يعتمد التفوق في التكتيك، على العدو الذي يتفوق في الإستراتجيا. ولطالما استطاعت الشعوب المناضلة، إجبار المستعمر على الرحيل، وإلحاق الهزيمة به وباستراتيجيته، من خلال المثابرة على الإنفراد بأجزاء صغيرة من قوته الشاسعة، وخوض معارك تنقلب فيها المعادلة، إذ يتفوق المقاومون، على جزء يقع في كمائنهم، ويكونوا في المعركة، أكثر منه عدداً وعُدة. لكن الأسرى الفلسطينيين الستة؛ عندما صنعوا مأثرتهم، لم تكن متاحة لهم، شروط المعركة التكتيكية، لا من حيث حرية الحركة ولا من حيث توافر السلاح، ولا من حيث جاهزية أيٍ من الفصائل أم المسميات الواسعة، لأن يؤمن لهم انسحاباً آمناً من المكان.
كانوا في سجنٍ يُسمى الخزنة الحديدة، موصولٍ على مدار الساعة باستراتيجية الهيمنة والتفوق الشامل، وغير منفصل عنها. هنا، تبدت جلية، قيمة الإعجاز وبراهينه، إذ انتصر المسجونون على السجانين، وأربكوا المنظومة الأمنية كلها، وحركوا بقوة المياه الراكدة، واستحثوا إعجاب شعبهم ومناصري قضيتهم العادلة، وطيروا إشارات قوية وجديدة عن معدن الشعب الفلسطيني، وأكدوا في عمل درامي مدهش، أن هذا الشعب عصيٌ على الرضوخ، وأن قضيته عصيّة على الإندثار. فقد بدأت معركتهم مع حفنة سجانين يحملون أقفالهم ومن حولهم حراستهم العسكرية، بينما الأسرى مسلحين بالأمل لا بالسلاح، وبالإرادة لا باليأس، وبالهمة لا بالرضوخ، فكان لهم شرف المحاولة وجسارتها. وهذا هو الذي غطى المرحلة الأولى، من ذلك العمل الإعجازي، حين كانت المكاسرة بين الإرادات، تنحصر بين طرف لا يملك شيئاً يساعده في معركة تكتيكية، وآخر يمتلك كل شيء!
للأسف، لم يستوعب البعض القليل، قيمة العمل الذي أنجزه الشباب الذين كسروا القيد، فوقع المشككون في الإثم. أما الذين غمرهم الإحساس بالفخر، فقد أدركوا منذ البداية، أن الشباب بعد خروجهم من فتحة النفق والوصول الى خارج محيط السجن، سيواجهون مصاعب مُضنية، وسيتعرضون للخطر، وللمطاردة الساخنة في سياق عملية انتشار عسكري واستخباري، لم يسبق لها مثيل. لم يكن الشعب الفلسطيني يتمنى لهم أكثر من النجاة وأن يظلوا طلقاء، وإن أعيد اعتقال أيٍ منهم، فمن الطبيعي أن يحزن المتعاطفون. فالعاطفة لا تأخذ بالأسباب الموضوعية، وإنما تأخذ بالتمنيات. فمقاتلو الحرية، يستحقون بامتياز هذه الحرية التي كابدوا في حياتهم، لكي ينعم بها شعبهم.