عادت غُرف انتاج أشرطة الديماغوجيا التابعة لخلية "إخوان" تركيا وقطر، الى سابق شغلها الذي انتهى الى نتائج عكسية، وثبت بالوقائع على الأرض، ومن خلال خطابنا الوطني البات، على هذه الشاشة، أنها نوع من زن الناموس. فقد أعيد رغي الكلام الذي تراجع عنه مخترعوه الأوائل، ما يؤشر الى وضعية إفلاس، أو الى عُثار في محاولات تصفير المشكلات في الإقليم، والوصول الى تصالح على قاعدة أن كل دولة في هذا الإقليم، حُرة في خياراتها. لكن الذي يقتضي محض إشارة الى هذا الإفلاس، دونما أدنى داعٍ، للدفاع عن النائب الفلسطيني محمد دحلان، هو التفشي المُطَّرد، لظاهرة المنتديات والتوجهات السياسية لنخب إجتماعية، راغبة في أن تتبنى التنظير للتطبيع، مثلما حدث في العراق مؤخراً. ففي هذه الظاهرة الخطيرة، التي تستحق الرصد والمتابعة والتمحيص، يتحول شخص مثل الشيخ وسام الحردان من النقيض الى النقيض. فالرجل، وهو عراقي سُني، بُنيت ثقافته السياسية على مدركات وجذور القضية الفلسطينية، وهو الذي أسس ما يسمى "الصحوات" في العراق، فاجأ الشعب العراقي الشقيق، هذا الشهر، بتنظيم اجتماع سياسي هدفه الإعلان عن التحاق العراق، بقطار التطبيع مع إسرائيل، وكان العراقيون بين مشكك ومصّدق لهذا التحول، فاشتعلت صيحات الغضب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وارتبك الشيخ الحردان، وحاول التنصل من موقفه السيء المُعلن. لكن "الحردانين" الآخرين، ظلوا على اسطوانة دحلان، دون أن يقدموا لنا حرفاً واحداً جاء على لسان الرجل، ينم عن تقبله لأي تطبيع. فهؤلاء يتركون الجَمل بكل ما حمل في الإقليم، وفي فلسطين نفسها، ولا يرون غضاضة من أي شيء فيه، باستثناء دحلان الغائب عن السلطة منذ أكثر من عشر سنوات. وفي سياقهم هذا، يتحدثون بالفرضيات الظنية الجزافية، التي رفضتها محاكم محمود عباس نفسه، علماً بأن هذا الأخير، يكرر في كل يوم، أنه ضد المقاومة، ومع التعاون الأمني مع إسرائيل مهما فعلت، وضد وحدة الفلسطينيين التي يشترط على الآخرين لكي يتقبلها، مثلما يؤكد بالممارسة أنه ضد استعادة الفلسطينيين مؤسساتهم الدستورية وضد إحراز الشعب الفلسطيني الحكم القائم على العدالة والقانون!
معنى ذلك أن "الجماعة" ومن هم وراءها، لم يستفيقوا أو لا يريدون الإستفاقة، على الحقائق التي يراها الجميع بأمهات عيونهم. وليست السذاجة هي سبب الإستنكاف عن الإستفاقة، وإنما السبب، أنهم يجدون ضالتهم في دحلان كلما تعثرت محاولات تصفير مشكلاتهم. فدحلان، شأنه في ذلك شأن معظم النخب السياسية العربية، لا يرون في حكم "الإخوان" وصفة عادلة وحيادية لتسلم القيادة في أي مجتمع متنوع. وليس معنى ذلك أن الرجل يناهض المقاومة مثلما يناهضها غيره، أو يناهض الإحتكام الى الشعب. فالعكس هو الصحيح، ولا نبالغ إن قلنا، أن هذه المرحلة السياسية من تاريخ حياة الشعب الفلسطيني، التي تتبعثر فيها الولاءات ويخبو تماماً بريق أي قطب سياسي؛ تجد لدحلان من المؤيدين ما ليس لأي طامح أو قطب سياسي آخر. لكن كل هذه الإحداثيات، لا تلقى اهتماماً ممن يشتغلون بالنزعات وبالمقاصد والحسابات الصغيرة. فلا أفكار واقعية لديهم. فهم يمضغون الفرضيات الظنية ولا يشرحونها، ويعودون القهقرى الى وقت السجال الفلسطيني الداخلي، مستفيدين من انهيار منظومة العدالة، التي يتاح في ظلها لكل ذي مظلومية، أن يلجأ الى المحاكم لكي تفصل في كل ما تعرض له من قدح وذم!.
على الرغم من ذلك كله، ليس هناك في ناظر المفلسين، من يزعجهم سوى دحلان. بل إن التطبيع عندهم نوعان، واحد مسكوت عنه وآخر مفتوح عليه، وهذا وحده يجرد المفلسين من صدقيتهم، بينما نحن على هذه الشاشة، نقول إن المقاومة حق مشروع، والتطبيع مرفوض من كل طرف مطبع، بل مرفوض بقوة بالنظر الى سياسة إسرائيل العنصرية المتطرفة والعدوانية. ونقول إن سعينا هو لنظام حكم يستمد شرعيته من شعبه صاحب الحق في التفويض، ولا نرى فرقاً بين متزعم يهبط بالمظلة من طائرة استعمارية، ومتزعم يلتصق بكرسي الحكم بالرضا الإستعماري. وفي العلاقات الوطنية الداخلية، نرفض الإحتراب والنزاع الأهلي، ونتعاون مع الجميع على قاعدة القواسم المشتركة، ونلح في طلب المصالحة ولو كانت على حسابنا، لكي نذهب متوافقين الى عملية ديموقراطية كاملة.
أما التغاضي عن ظواهر الإرتداد المتنفشية، فهو نوع من الخيبة والإفلاس. فالرجل الذي تركز عليه غرف إنتاج الأشرطة العبيطة بمفرادات عفا عليها الزمن، هو نائب منتخب بأعلى الأصوات، وبالترشيح الفردي، وعضو لجنة مركزية في حركة فتح، منتخب في مؤتمر عام حاشد، وقطب سياسي حاضر، لا يزعم لنفسه أحقية لم يقررها شعبه له، ولم يفقد قاعدته الإجتماعية ولم يفعل في بلاده سوى مد يد العون، ما استطاع الى ذلك سبيلاً. أما لغة التخوين والخيانة، فلتفتش الغرف الطائشة عن عناوينها، إن كان لها عيون ترى وآذان تسمع!