خَرجَ ولم يَعُد
ربما يكون من المبكر، الحديث عن خلفيات اختفاء مواطنين فلسطينيين في العديد من المدن التركية. فكل احتمال جائز، لأن تركيا بلداً مفتوحاً على كل المشارب والمقاصد، ويختلط في سياساتها الشيء ونقيضه. وظاهرة الثغرة التركية التي ينفذ منها مواطنون فلسطينيون سُدت أمامهم كل المنافذ، فطفقوا ينتقلون الى تركيا؛ ما تزال مفتوحة. وتلك وقائع انتقال تشبه القفزات في الهواء، غايتها الأولى الإستراحة ولا غاية ثانية يعلمونها بعدئذٍ!
أول ما يصح استذكاره في تأمل ظاهرة الإختفاء، أن إسرائيل حاضرة بكل أجهزتها الأمنية، وهي ليست حاضرة عَرضاً أو انسلالاً، وإنما بالتنسيق. ثم يصح أن تُستذكر ظاهرة المافيات الإقتصادية، التي تمارس الإكراه، ولا يكبحها كابح. ولا يغيب أيضاً عن السياق، وجود احتقان داخلي، بين طيفين وازنين، لكل منهما توجهاته الأيديولوجية وله أدواته. لكن السؤال ما هو شأن الفلسطيني في هذا كله؟
فإن كان شأن الفلسطيني، من زاوية النظر الإسرائيلية، أنه مُلاحق بحكم انتمائه الوطني، ، فما هو دور السلطة التركية، إن كان اختفاء الشباب نجم عن فعل استخباري إسرائيلي، علماً بأن السلطات التركية، اشترطت على منتسبي حركات المقاومة الذين سافروا للإقامة في تركيا، ألا يسهموا في أي عمل يؤدي الى عُنف، ومن يُسهم يُغادر؟
واضح من خلال وقائع ملاحقة واختفاء الشُبان الفلسطينيين، أن القائمين على الخطف، منظمة أمنية متصلة الحلقات وتمتد على رقعة الجغرافيا التركية. فالفلسطيني الفرد، لم يصبح هدفاً في مدينة واحدة، وإنما أصبح الفلسطينيون أهدافاً، لمجرد إشارة ولو مقتضبة، تدل على انتماء أو تعاطف.
فهل تقتصر أهداف الفعل العصابي، على تحويل تركيا الى بلد طارد ـ لا جاذب ـ للفلسطينيين، من خلال ترويعهم وجعل كل واحد منهم مخطوفاً محتملاَ؟
الأسئلة كثيرة وقابلة للتناسل. لكننا الآن أمام مشكلة إنسانية، ملخصها أن فلاناً من أبنائنا قد خرج ولم يعد، أو إنه ذهب لكي يتناول عشاءه، ثم لم يُعرف أي نوع من العشاء قد تناول.
سفير فلسطين لدى تركيا، شاب وطني وقد جاء من خلفية أمنية. لذا سرعان ما تفاعل مع مسألة اختفاء الشباب، بمثابرة لافتة، كأنما كل الإحتمالات حاضرة في ذهنه. ولعله الآن، يسابق الزمن، للعثور عن إجابات عن بعض الأسئلة، خفيفها وثقيلها. ثم إن إسرائيل، كعدو لا مثيل له في السفالة، على مر تاريخ الصراعات؛ يفعل أي شيء، وإن انكشف يعتذر ويتراجع ويوبخ بعضه بعضاً. فهكذا فعل عندما استهتر بأمن الأردن، في سبتمبر 1997 وحاول حقن خالد مشعل بالسم القاتل في قلب العاصمة عمّان، ولم يكترث للتطبيع أو للتصالح مع إسرائيل. فما بالنا والأمر يتعلق بتركيا، التي لا ينقطع تعاونها الأمني والإستراتيجي مع إسرائيل.
لكن العناصر الفلسطينية التي جرى خطفها، ليست ـ على الأرجح ـ من النوع الذي يزعج إسرائيل أو الأمن التركي أو حتى العصابات المافيوية الناشطة. فربما رآهم الخاطفون أهدافاً لجر المعلومات من خلال التحقيق، أو أن يكون الهدف العام هو ترويع الجالية الفلسطينية لتقليص نموها في تركيا أو حملها على المغادرة.
لا نريد استباق الأمور. فكل ما نريده هو أن يعود المُختطفون الى سياق حياتهم، ولا مجال للإفتراض أن السلطات التركية تجهل الفاعلين ولا تعرف خلفيات الظاهرة. ومن باب التهدئة، يمكن القول إن إقامة كادرات من حماس في تركيا، على الأراضي التركية، لا يمثل خطراً على إسرائيل، والدليل على ذلك، أن إقامتهم نفسها، أصبحت مأخذاً على هذه الكادرات، سواء من داخل حماس أم من خارجها. ثم ما هو شأن الحزانى المختطفين في هذه اللُجّة كلها؟
السياسات التركية تتلون، وهي بطبيعتها موازييك. والمشكلات التي يواجهها الحكم، جعلته يشدد القبضة الأمنية. ففي خلال الأسبوع الماضي، أعلن الأوروبيون والأمريكيون عن تراجع الديموقراطية في البلاد. وفي الليلة الماضية، نشرت جيروزاليم بوست الإسرائيلية تقريراً طويلاً، عن سعي إردوغان الى إبرام تحالف قوي مع روسيا في سوريا، على النحو الذي يقلب للسوريين المعارضين ظهر المِجَنْ!
وفي هذا الخضم، يُستهدف العنصر الفلسطيني، فتنهض أسئلة جديدة وتسقط أجوبة قديمة. المهم عندنا الآن أن الشاب المختطف، قد خرج ولم يعُد!