شكل قطاع غزة منذ النكبة وقيام الكيان الصهيوني القلعة الأساسية للوطنية الفلسطينية حيث ظل متمسكا بصفته الوطنية يحمل اسم فلسطين بينما باقي الشعب الفلسطيني فقد توزعت تجمعاته بين الحصول على الجنسية الإسرائيلية ولكن ضمن سياسة التمييز العنصري أو اكتساب الجنسية الأردنية بعد ضم الضفة الغربية للمملكة الهاشمية أو إقامتهم في مخيمات الشتات في الدول المضيفة لهم كلاجئين .
هذا الوضع السياسي المتميز للقطاع جعله أكثر حساسية سياسية وامنية في علاقته بنظام الحكم في وقت تم التركيز به على خصوصية الحالة المعيشية الفلسطينية بسبب حالة الاقتلاع والإجلاء حيث أضحى بعد النكبة أكبر مستودع بشري للاجئين الذين نزحوا إليه من المدن والبلدات والقرى التي احتلتها قوات العصابات المسلحة الصهيونية.
في أعقاب النكبة مباشرة خضع القطاع لرقابة القوات المصرية الضاربة كما كانت توصف من قبل الإعلام الحربي المصري في ذلك الوقت مما أشاع الأمن في ربوع القطاع الذي تولت الإدارة المصرية الإشراف عليه وفي عهدها الذي استمر من عام 48 إلى عام 67 ظل الوضع السياسي الداخلي مستقرا بحيث يستطيع الإنسان أن يعيش بدون معاناة كبيرة تذكر .
صحيح أنه كانت توجد حالة فقر ولكن الأصح ايضا انه على مستوى الحياة الاجتماعية لم يكن يوجد هذا الفارق الطبقي الكبير بين فئة حاكمة منتفعة وفئة محكومة تعيش على المنح والكوبونات.
لقد وفرت الإدارة المصرية كل متطلبات الحياة المعيشية التي يمكن لأي مواطن الحصول عليها بدون عناء من غذاء ودواء وصحة وتعليم وعلى مستوى الخريجين تم استيعابهم كمدرسين في المحافظات المصرية .
وهكذا لم يشهد قطاع غزة في عهد إشراف الإدارة المصرية أي نوع من المعارضة السياسية للحكم ولم يجر أي نقاش داخل الأحزاب السياسية الموجودة بكافة ألوانها القومية والإسلامية واليسارية عن ضرورة إنهاء الحكم المصري العسكري بل إن جماهير القطاع بعد انسحاب القوات الإسرائيلية في 7 مارس عام 57 طالبت بعودة الإدارة المصرية ثانية إليه رافضة بشدة عبر مسيرات حاشدة مشروع التدويل الذي كان مطروحا في الأمم المتحدة.
كان من الطبيعي أيضًا أن تبدأ الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلة عام 67 من القطاع وذلك بسبب التناقض الرئيسي مع الاحتلال على الرغم من عدم وجود ضائقة معيشية بين أغلب سكانه حيث أغلب عمال القطاع كانوا يمارسون أعمالهم المهنية ضمن عجلة الاقتصاد الإسرائيلي .
أما بعد اتفاقية اوسلو وقدوم السلطة الوطنية فقد شعر سكان القطاع لأول مرة بترجمة المشاعر الوطنية في التحرر إلى حقيقة سياسية وامنية واقعة فقد غابت سياسة الوصاية العربية عنه وقد تم انسحاب القوات الإسرائيلية منه وأصبح يشكل في الواقع المقر الرئيسي لكيان سياسي ذاتي في حال التطور نحو الاستقلال وهكذا نعم القطاع باستقرار سياسي في عهد السلطة الوطنية فلم يشعر الغزيين بأي غلاء معيشي أو بطالة خريجين أو أزمة كهرباء لكن بعض مظاهر الفساد الإداري التي ظهرت على بعض المسؤولين قد الحق نوعا من الاستياء بين صفوف الشعب فشيوع الرشوة والمحسوبية وبروز النزعة العائلية والفلتان الأمني ..
كل هذه المظاهر كانت وراء خسارة حركة فتح في الانتخابات التشريعية وفوز حركة حماس التي تطرح نفسها منذ نشأتها في الانتفاضة الأول كبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية .. الانقسام السياسي البغيض كان الصدمة الكبرى التي أبرزت على نحو فاقع ومأساوي شكل الصراع على السلطة فانقلاب حركة حماس على شرعية السلطة الوطنية و بغطاء مشروع المقاومة في مواجهة مشروع المفاوضات الذي لم يحقق أي تقدم ملموس على صعيد التسوية حول هذا الانقلاب قطاع غزة إلى إقليم محاصر مما جعله أشبه بسجن كبير يصعب الخروج منه والدخول إليه من خلال معبر رفح الوحيد وهكذا خلال خمسة عشر عاما من الانقسام ازدادت الأوضاع المعيشية الصعبة فيه سوءا فلم تفلح الاتفاقيات التي وقعت في إنهائه وإجراءات الضغط التي مورست قد ساهمت هي الأخرى في وصول القطاع إلى أحوال كارثية لينفجر الحراك الشعبي قبل أعوام رافعا شعار "بدنا نعيش" أو كما يوصف في بعض وسائل الإعلام بثورة الجياع في مواجهة حكومة الأمر الواقع .
هكذا لم يكن الأسلوب الذي يجري في القطاع بين فترة وأخرى من حراك شعبي وطني مطلبي إلا هو الأسلوب الذي درج عليه القطاع في علاقته السياسية مع نظام الحكم على مختلف اشكاله فبقدر ما يلبي نظام الحكم احتياجات الجماهير الشعبية بقدر ما تلتف حوله وتنعدم المعارضة وفي كلتا الحالتين التفاف الجماهير او نشوء المعارضة يبقى القطاع قلعة أساسية من قلاع الوطنية الفلسطينية.