أيا تكن نتيجة زيارة المبعوث الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين لكل من بيروت وتل أبيب، أي أن تؤدي إلى إعلان اتفاق وقف الحرب الإسرائيلية على لبنان، أم إلى العودة بخفي حنين، كما كانت أكثر من جولة سابقة له بين الجانبين، فإن المؤكد هو أن هوكشتاين قد جاء لبيروت أولا بعد عقد اتفاق ثنائي بين تل أبيب وواشنطن، بما يعني أن الطرف الأميركي ليس وسيطا محايدا، وهو لم يكن كذلك أصلا، وثانيا، أنه جاء محملا بسقف مطالب إسرائيلية هبط كثيرا عما كان يعلنه قادة الحرب الإسرائيلية، ممثلين برئيس هيئة الأركان هيرتسي هاليفي، ورئيس الحكومة نفسه، فضلا عن وزيري الدفاع المقال يوآف غالانت وخليفته الحالي يسرائيل كاتس، وفي كل الأحوال، فإن المبعوث هوكشتاين وهو اختصاصي ملف الصراع اللبناني/الإسرائيلي، حاله مثل حال أنتوني بلينكن وزير الخارجية، الذي تولى ملف الحرب الإسرائيلية على غزة، لا يجيء إلا من أجل مصلحة إسرائيل، هذا إن لم يكن بطلب منها بشكل صريح وواضح.
ودخول المبعوثين الأميركيين على خط الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من عام ونيف، على كل من فلسطين ولبنان، يعبر تماما عن الدعم الأميركي الميداني، وليس السياسي فقط لإسرائيل وهي تخوض حربها العدوانية، وإذا كان بلينكن قد جاء للشرق الأوسط في نحو عشر جولات، ليس بدافع التعاطف مع ضحايا حرب الإبادة من الفلسطينيين، ولكن تخفيفا للضغط السياسي والقضائي والشعبي العالمي عن إسرائيل، الذي رافق تلك الحرب، وذلك بذر رماد بايدن في عيون العالم، بإيهامه بأنه يجري التفاوض من أجل وقف تلك الحرب، فيما هوكشتاين يجيء إلى لبنان، لوقف الضغط الميداني الذي تتعرض له قوات الاحتلال الإسرائيلي، جراء مقاومة حزب الله ميدانيا، ليس فقط في التصدي لتوغلاته البرية، ولكن أيضا في تحقيق معادلة الردع بشكل ناجح وفعال وبيّن، من خلال الرد على القصف بالقصف، ومواجهة سلاح الجو الإسرائيلي بالصواريخ والمسيرات، ولو كان هوكشتاين قد جاء من أجل الضحايا المدنيين اللبنانيين، لكان قد جاء منذ أول يوم للحرب، وقبل تهجير نحو مليون ونصف لبناني، أو أنه قد ذهب لإسرائيل لتوبيخها على الأقل حين بدأت الحرب بتفجيرات «البيجر»، وارتكاب عمليات الاغتيال في بيروت.
كذلك يمكن تأكيد أن المسعى الدبلوماسي الأميركي عبر هوكشتاين، إنما هو تعبير عن هدف إسرائيلي، هو ما أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلي نفسه، بنيامين نتنياهو، حين قال بأنه يسعى إلى الفصل بين جبهتي الحرب في لبنان وغزة، وفي الحقيقة فإن ذلك كان هدفا واضحا تماما لكل من إسرائيل وأميركا، وذلك خلال عام الحرب المنقضي بأكمله، حيث واصلت أميركا بالترهيب والترغيب، باستعراض قوتها العسكرية، أو بالزج بدبلوماسيتها الضاغطة، ليس فقط للفصل بين مساري الحرب في لبنان وغزة وحسب، بل وإلى إسكات كل جبهات الإسناد، في لبنان واليمن والعراق، وهذه حقيقة واضحة، يدركها كل من تابع مجريات الحرب، وذلك من أجل تسهيل مجرى الحرب الإسرائيلية على غزة، لتحقق أهدافها - أيا كان مداها من العنصرية والإرهاب - بأسرع وقت ممكن، وهذا كان موضوع الخلاف بين بايدن ونتنياهو، الذي لم يغير من حقيقة حرب الإبادة الإسرائيلية شيئا.
ولهذا فإن أميركا وجدت في محاولة تحقيق الإنجاز في لبنان ضالتها، بعد الفشل المتواصل في غزة، ويعود ذلك لأكثر من سبب، منها هدوء ردود الفعل الغاضبة الدولية على مستوياتها القضائية والسياسية والشعبية، على حرب الإبادة في غزة، فيما الحرب في لبنان كما هي الحرب في غزة استنفدت بنك الأهداف، الموجود في جعبة الاستخبارات الإسرائيلية، بالتوازي مع الفشل وسقوط القتلى في صفوف الجنود الإسرائيليين في الحرب البرية، يضاف إلى ذلك، وجود معارضة سياسية داخل لبنان، أو حتى خصوم سياسيين لحزب الله، يجد الأميركيون والإسرائيليون في الدفع بالمقترحات السياسية لوقف الحرب، مدخلا لتحويل الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى حرب أهلية داخلية، ذلك أنه حتى المطالبة بانسحاب قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، تعني أن تخرج من حالة كونها مقاومة تقاتل المحتل، إلى ميليشيات عسكرية داخل المدن والمجتمع اللبناني، بما يفتح الباب واسعا، لأن تصطدم مع غيرها من ميليشيات الخصوم، أو حتى مع عناصر الدولة من أجهزة أمن وشرطة وحتى جيش.
وفيما يبدو أن الدخول الأميركي فيما يطلق عليه ربع المتر الأخير، يهدف إلى اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد، وذلك في ظل ما يوصف «بالبطة العرجاء» الموجودة في البيت الأبيض، وذلك أن الحديث حول وقف الحرب الإسرائيلية على لبنان، ورغم أنه يدور خارج «منطق» حزب الله، الذي ظل طوال أكثر من عام يقول، إن وقفها أمر في منتهى البساطة، ويتمثل بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، ومباحثات هوكشتاين مع كل من رئيسي الحكومة والبرلمان اللبنانيين، تدور حول تنفيذ القرار 1701، وهذا يمثل أيضا تراجعا في سقف المطالب الإسرائيلية التي قبل إطلاق عمليتها البرية، ومباشرة بعد تحقيق إنجازاتها باغتيال قيادات حزب الله، طالبت بإقرار لبناني رسمي بالاستسلام لاحتلال إسرائيلي، ليس فقط لثلاث عشرة نقطة حدودية، إضافة لعدة كيلومترات من التوغل الحالي، بل باحتلال أجواء ومياه لبنان الإقليمية.
وكل ذلك جرى في إطار الحديث عن تعديل القرار 1701، الصادر عن مجلس الأمن بعد حرب العام 2006 بين إسرائيل ولبنان، ولكن لأن التعديل الرسمي على القرار، يحتاج موافقة أعضاء مجلس الأمن، بمن فيهم روسيا والصين، فإن المحاولة الإسرائيلية - الأميركية كانت تجري من خلال الحديث عن تشكيل لجنة لمراقبة تنفيذ القرار، تلك المهمة التي كانت منوطة بقوات اليونيفيل الأممية، لكن لبنان الرسمي، رد على المحاولة الإسرائيلية بمنح الرد للميدان، وفعلا كان رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، دائم التواصل مع رجال المقاومة ويتابع المواجهة الميدانية، وهو الرجل المحنك سياسيا، والمفاوض البارع، والأهم من كل هذا المخول بالحديث عن حزب الله، والذي يحوز ثقة أهم قوة سياسية وعسكرية في لبنان.
وفي الحقيقية، فإن الأميركيين، بكلتا إدارتيهما، العرجاء، أي إدارة جو بايدن، أو المنتخبة مع دونالد ترامب، يواجهون مع مؤسسات الدولة الإسرائيلية العميقة، أي الجيش وأجهزة الأمن والقضاء، ومعظم الإسرائيليين العلمانيين، عجزاً في مواجهة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، التي ما زالت تواصل الحرب في لبنان وغزة، رغم أنها بلا جدوى، وهي في أحسن حالاتها تحقق منجزات تكتيكية، مقابل أثمان باهظة، سياسية وبشرية واقتصادية، كذلك فشلت في تحقيق أهم أهدافها العسكرية المباشرة، المتمثلة بإعادة المختطفين أحياء من غزة، وإعادة مستوطني الشمال بالقوة، وأخطر ما في الأمر، هو أن نتنياهو قاد عبر ثلاثة عقود تحولا داخليا خطيرا للغاية، يهدد مستقبل إسرائيل، وتمثل بصعود اليمين الديني مقابل اليمين العلماني، وإقامة دولة إسرائيل التوراتية مقابل دولة إسرائيل الصهيونية، وإذا كانت إسرائيل الصهيونية هي حليف الغرب، فإن إسرائيل التوراتية بحاجة إلى حلفاء فاشيين في الغرب، ولهذا حاول نتنياهو من خلال هذه الحرب الزج بأميركا في حرب مع إيران، وتوريطها بحرب إقليمية تنتهي وفق أحلامه بإقامة إسرائيل العظمى في الشرق الأوسط.
والحرب استنفدت نفسها تماما، فيما أرهق الجيش الإسرائيلي، وقد ضاق الوقت أمام نتنياهو بحيث بات أقل من شهرين، هما مهلة ترامب، بعد أن حاول تحقيق هدف تدمير أميركا لإيران عسكريا خلال ولاية بايدن، والمراقبون يؤكدون أن الجيش الإسرائيلي المرهق أصلا في حرب غزة، والذي صار خلال الشهرين الأخيرين ليس له من مهمة سوى إحصاء قتلاه في غزة وجنوب لبنان، يخشى الدخول في فصل الشتاء البارد، وهو في حالة الحرب، وهكذا فإن إسرائيل وأميركا تسعيان للخروج من وحل الحرب البرية باتفاق سياسي، لقبض ثمن مجاني، بدلا من وقف الحرب من طرف واحد، كذلك للحصول بالسياسة على ما عجزتا عن تحقيقه بالقوة العسكرية، كما تحاول أميركا أن تقنع نتنياهو بالموافقة على وقف الحرب، عبر الوساطة الأميركية حتى تسجل كإنجاز لبايدن، وقد كان الفيتو الأميركي ضد قرار مجلس الأمن لوقف الحرب على غزة بأغلبية 14 صوتاً، مكافأة لنتنياهو لإدخاله المساعدات بواقع يقترب من 250 شاحنة لغزة يوميا، وكان ذلك في نفس اللحظة التي كان فيها نتنياهو يلتقط «صورة النصر» في نيتساريم، بينما عاد القضاء ليفتح ملفاته الداخلية، التي كان هدف إغلاقها واحدا من أهم أهداف الحرب عنده، إضافة للحفاظ على الائتلاف الفاشي في حكومته الحالية، الذي يعتبره أداته لتنفيذ أحلامه بإقامة دولة إسرائيل اللاهوتية العظمى.