في نهايات القرن قبل الماضي كان صحافي نمساوي مأخوذاً بحماسته لقضية درايفوس الشهيرة، عناوين مشروع حالم عنوانه فلسطين يقوم على انتزاع اليهود في العالم من مجتمعاتهم ليقيموا وطناً فيها بمقولته الشهيرة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
كان هرتسل اليهودي العلماني حتى النخاع يستند لوعد التوراة لإبراهيم وابنه إسحق بالأرض بانيًا على ميثولوجية معلقة مشروعًا بدا طوباويًا آنذاك.
كان القلق يساور هرتسل ليس بسبب قضية الضابط اليهودي الفرنسي والذي اتخذ منها مثالاً على نبذ اليهود في تلك المجتمعات، بل لأن ثورات الحرية في أوروبا في القرن السابع عشر الثورة الفرنسية وقبلها ثورة كرمويل في بريطانيا بدأت تزيل عوائق اندماج اليهود في مجتمعاتهم وتحررهم من الغيتو» وهذا كان الخطر على الأمة اليهودية التي تستدعي نقلها بسرعة من مجتمعات المساواة التي تهدد بذوبانها»، تقاطعت رؤوس الأموال والامبراطوريات في لحظة تاريخية معينة لتغير مجرى التاريخ.
حدد الأب الروحي للمشروع ثلاث مراحل، الأولى هي بناء الشخصية اليهودية، فقد هاله أن يرى أن اقتصاد الغيتوات اليهودية لا يقوم على الإنتاج وبالتالي ينبغي نقل اليهود إلى فلسطين لتحويل اليهودي إلى عامل منتج في الزراعة، أما المرحلة الثانية فهي إقامة الدولة اليهودية وهو ما كتبه بدقة في الكتيب المعروف «الدولة اليهودية»، فيما حدد المرحلة الثالثة بأن تصبح إسرائيل المفترضة آنذاك دولة طبيعية في المنطقة كمرحلة أخيرة لاكتمال المشروع.
من تابع حركة السياسة الإسرائيلية في الإقليم خلال الفترة الماضية يمكن للحظة أن يقول إن إسرائيل تبلغ المرحلة الثالثة من مشروعها، رئيس الأركان يلتقي نظراءه البحريني والقطري، الرئيس الإسرائيلي من الإمارات إلى آخر عواصم الخلافة في تركيا ثم الأردن، ورئيس الوزراء من دبي إلى شرم الشيخ وقمة سداسية منها أربعة وزراء خارجية عرب في النقب، ولا حديث جدياً في كل تلك الزيارات يذكر إسرائيل أنها دولة احتلال، لكن الأردن كان يحسب بميزان دقيق حين اختار مقاطعة لقاء النقب.
لا أعرف كيف تظن إسرائيل أن هذا هو الشكل الأمثل لإغلاق صفحة من أكثر صفحات التاريخ تعقيداً.
صحيح أن الميثولوجيا انتصرت على الواقع في لعبة عبثية ولكنها لم تكن وحدها فقد تسلحت بكل عوامل الدعم والإرادة ولكن ليس للحد الذي يمكن أن تجهل تماماً إفرازات واقع انتصارها والتباساته، بل أوغلت في الآونة الأخيرة بإنكار الواقع وذهبت حد الحديث نيابة عن العرب وباسمهم وعلى لسان رؤساء وزراء «بأن العرب باتوا مقتنعين أن إسرائيل دولة تسعى للسلام». إفرازات الواقع تقول إن سبعة ملايين فلسطيني موجودون على الجغرافيا ولم يخرجوا من التاريخ. كيف لم يرَ الإسرائيلي المدجج بمراكز دراسات هذا الاستعصاء معتقداً أن علاقات خارجية مع الإقليم امتدت من شرقه في أنقرة حتى غربه في الرباط يمكن أن تنهي قصة هؤلاء.
في السياسة دوماً هناك المركز والأطراف، وبالعادة يكون التأثير من المركز وهنا يتمثل بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي والشعب الفلسطيني أما الأطراف فهو ما تحاوله إسرائيل من علاقات إقليمية تبدو خجولة ومتسللة وهي تحاول ممارسة طبيعتها بتصنع غير متقن تكشفه وسائل إعلامها وهي تزج خبر اللقاء مع الإسرائيلي في هوامش الصحافة والبث عندما لم تتمكن من إخفائه، هكذا هي الأشياء.
وفي ذروة حركة الأطراف كان المركز يهتز من جديد ليعيد الرواية إلى أصلها ويذكر بأن أي فلسطيني قادر على إعادة ضبط إيقاع الحركة السياسية من جديد.
ففي ذروة النشوة الإسرائيلية بما تعتبره اختراقات في الإقليم وهي تتمدد بعلاقاتها كان أرق الواقع أقوى من استكمال الحلم لتجد نفسها تستنجد بالعواصم القاهرة وعمان للمساهمة في تهدئة وهي تراقب لحظة انفجار قادمة، فمن جهة هي تتجاهل الواقع ومن جهة ثانية تستنفر كل الإقليم لضبطه، تلك هي الحقيقة.
آخر ما تحتاجه إسرائيل الآن هو التصعيد. فاللحظة شديدة الحساسية مع الحرب الروسية الأوكرانية، فإذا ما اشتعلت هنا ستدخل غزة كعادتها على خط المواجهة وتتصاعد الأمور باتجاه حرب، وهنا مأزق إسرائيل في خطاب العالم الذي ذهب بعيداً في انتقاد روسيا وداعماً لأوكرانيا ومقاومتها فإن هذا العالم سيحاول ربما يتصرف بانسجام مع خطابه الأوكراني تجاه الفلسطينيين وتجاه الاعتداء الإسرائيلي.
وهذا ربما من حسنات الحرب الأوكرانية وهو ما تعرفه إسرائيل وتحاول تجنبه قدر الإمكان على الأقل لأن تنتهي أزمة أوكرانيا ويتراجع خطاب تأييد مقاومتها لدى الغرب.
وبعد أن تطبع إسرائيل مع الأطراف ماذا عن المركز؟ أن تستمر في الاحتلال وأن تستمر التهدئة كيف يمكن التوفيق بينهما؟ والسؤال، دون الحقوق الفلسطينية هل يمكن لإسرائيل أن تكون دولة طبيعية في المنطقة؟ ماذا ستفعل بسبعة ملايين فلسطيني وهل تصدق أنه يمكن تطويعهم وأن يقبلوا بأن يكونوا شعبًا تحت الاحتلال للأبد؟
التجربة تقول إن فلسطينيًا من طرف المخيم يمكن أن يعيد الهرم المقلوب واقفًا على قاعدته ويعيد التذكير بالرسالة التي أرسلها رفيق درب هرتسل «ماكس نورداو» عندما زار فلسطين في نهاية ثمانينيات القرن قبل الماضي ليرى تلك الأرض التي يحلم بها صديقه فيرسل له رسالة يقول فيها: «العروس جميلة ولكنها متزوجة»، يقصد فلسطين جميلة ولكن بها شعب وليس كما قال له صديقه بأنها «أرض بلا شعب».
وهنا مشكلة إسرائيل التي أضاعت فرصتها حين قدم العرب مبادرتهم قبل عقدين تمامًا عندما لاحت فرصة أن تكون دولة طبيعية. الزوج موجود وشديد التطلع لمستقبله وعروسه ولم يمت بعد بل ينام على الحلم!