لا ينتظر رئيس الحكومة الانتقالية يائير لابيد، من يرغب في خوض جدل عقيم بشأن رؤيته السياسية خلال هذه الفترة، إزاء ما يدور حول إسرائيل، حتى يعلن أنه لا يختلف في الجوهر عن سابقه، بل سابقيه من رؤساء حكومات اليمين المتطرف.
هذه هي هوية رئيس الحكومة الجديد، فهو سيتابع تعميق وتوسيع عمليات السلام والمقصود بها التطبيع مع الدول العربية. إذا كان هذا لا يحدد هوية لابيد، فإن تهديداته الصريحة لإيران و«حماس» وسورية، و«حزب الله»، تشير إلى التزامه بالسياسات التي درجت عليها الحكومات السابقة.
يؤكد لابيد أنه لن ينتظر ممن يقفون في الجهة المعادية لإسرائيل وأن على حكومته أن تتحرك ضدهم في جميع المجالات، وأن هذا ما سيفعله.
هذا يعني أن إسرائيل مقبلة على عمليات تصعيد ميداني واسع في المنطقة، خصوصاً في ضوء التطورات على ملف النزاع الإسرائيلي اللبناني بشأن ترسيم الحدود. وكذلك الحال بعد فشل الجولة الأولى من المفاوضات الإيرانية الأمريكية التي جرت في الدوحة نهاية الأسبوع المنصرم.
تراقب إسرائيل عن كثب تحركات أطراف ما يُعرف بـ «محور المقاومة»، التي شهدت جملة من اللقاءات المهمة لتعزيز التعاون، ما أسفر حتى الآن عن إذابة الجليد في العلاقات بين «حماس» وسورية.
تدرك إسرائيل مدى صعوبة استعادة العلاقات بين سورية و«حماس» الأمر الذي ما كان ليتمّ لولا إدراك أطراف «محور المقاومة» لأهمية إنهاء القطيعة بين الطرفين في سياق مجابهة العدوانية الإسرائيلية المتزايدة.
إذا كانت إسرائيل واظبت على شن عدوانها على سورية بذريعة وقف إمدادات السلاح، ومنع إيران من تعميق وتوسيع تمركزها في سورية، وإذا كانت تواصل عملياتها التخريبية وعمليات الاغتيال في إيران، فإن صعوبة التوصل لاتفاق بين إيران والولايات المتحدة بشأن العودة لاتفاق 2015، تعطيها فرصة لتصعيد عدوانها وضغوطها على إيران بموافقة أو تواطؤ أمريكي.
أما الفتيل الأكثر اشتعالاً، ويمكن أن يؤدّي إلى تفجير الأوضاع على نطاقٍ واسع، فهو الذي يتعلق بموضوع ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، خصوصاً ما يتّصل باكتشافات الغاز والنفط شرق «المتوسط».
الولايات المتحدة، بادرت إلى إرسال ممثل لها، للتوسط بين الطرفين والهدف هو تأجيل الانفجار، ذلك أنها تدرك مدى صعوبة التوصل إلى اتفاق.
تنبع صعوبة التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود، خصوصاً البحرية، من كون إسرائيل، قد بدأت التنقيب في حقل «كاريش»، الذي يعتبره لبنان جزءاً من حقوقه، بينما تعتبره إسرائيل حقا لها، لا يمكن أن يخضع للمساومة وأنه لا يقع ضمن المناطق المتنازع عليها.
تصريحات الأمين العام لـ «حزب الله» قبل أسابيع بشأن «كاريش»، من باب التأكيد على أنه جزء أكيد من حقوق لبنان، وأن لبنان لا يمكن أن يتساهل مع سرقة ثرواته، ولُقمة عيشه، تشير إلى أن «المقاومة اللبنانية»، لن تقف مكتوفة الأيدي، وأنها في انتظار نزع الذرائع بعد اتضاح نتائج الوساطة الأمريكية.
«حزب الله» لتأكيد مصداقية تصريحات أمينه العام، أرسل رسالة واضحة، وقد وصلت، حين أرسل ثلاث طائرات مُسيّرة اقتربت من «كاريش»، ويقول إنها حققت المهمة رغم أن سلاح الجو الإسرائيلي قام بإسقاطها، فيما يدّعي «حزب الله» أن الطائرات المُسيّرة، لم تكن مسلّحة، ولا غرض لها سوى إيصال رسالة، ونقل معلومات استخبارية فإن لابيد، يدّعي أن تلك المُسيّرات، حاولت المساس بمنشآت إسرائيلية فيما يدّعي أنها في المياه الاقتصادية الإسرائيلية.
تحاول إسرائيل زرع الفتنة بين «حزب الله» والحكومة اللبنانية، من خلال اتهام الحزب، بأنه يواصل بطرقٍ إرهابية المساس بقدرة لبنان على التوصل لاتفاقٍ بشأن ترسيم الحدود، على أن هذه اللعبة مكشوفة تماماً بالنسبة للبنانيين، خصوصاً أن إسرائيل لم تنتظر نتيجة التفاوض حول ترسيم الحدود، وأنها صادرت مسبقاً حق لبنان في حقل «كاريش».
في الواقع فإن إسرائيل التي لا تتوقف عن التبجُّح بقدراتها العسكرية التي باستطاعتها خوض الحرب على ستّ جبهاتٍ في وقتٍ واحد، فإن جيشها يعترف بما ينطوي على الحذر، حين يعلن أن «حزب الله» يحاول تقويض السيادة الإسرائيلية برّاً وبحراً وجوّاً.
مسألة انفجار الأوضاع على نطاقٍ واسع في المنطقة، هي مسألة وقتٍ ليس أكثر، فالألغام تنتشر في أكثر من مكان في المنطقة، ولا تستطيع إسرائيل المراهنة على إمكانية تحقيق أهدافها التوسعية والعدوانية من دون أن تجد جواباً، والأخطر عليها، أن تنفجر في وجهها أكثر من جبهة في آنٍ واحد.
تعرف إسرائيل أن تحقيق المزيد من الإنجازات على طريق التوسع وتعزيز دورها الإقليمي، ينطوي على أثمانٍ باهظة، وأن الحروب إذا اندلعت لن تكون على شاكلة حروبها السابقة على العرب.
هذه المرّة، حروبها ليست مع جيوشٍ تقليدية، فهي مع قوى وأحزاب شعبية تمتلك إمكانيات كبيرة، وهي ليست حروباً يمكن أن تقع خارج حدود دولة الاحتلال، حيث إن الجبهة الداخلية ستتعرض لعشرات آلاف الصواريخ. حين تندلع المواجهات، لن تفيد إسرائيل كثيراً «اتفاقيات التطبيع» التي أبرمتها مع عددٍ من الدول العربية، طالما أن جبهتها الداخلية ستكون جزءاً من ميدان المعركة.
على الجبهة الفلسطينية الإسرائيلية، ثمّة «هدوء» كاذب، له علاقة بمتطلّبات استقبال الرئيس الأميركي، خصوصاً ما يتعلق بـ «جبهة غزة»، التي تعتقد إسرائيل، أن زيادة عدد تصاريح العمل، وبعض التسهيلات يمكن أن تشكل قيداً على فصائل المقاومة.
في الواقع لا تستطيع إسرائيل أن تضمن هدوءا بالمستوى الذي يمنع انفجار الأوضاع في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
ثمّة هدوء نسبي، دون أن تتوقف إسرائيل عن مزاولة اعتقالاتها واغتيالاتها واقتحاماتها للمدن والقرى الفلسطينية وحفرياتها تحت وحول المسجد الأقصى.
وطالما أن إسرائيل تواصل إقفال كل الطرق أمام إمكانية فتح العملية السياسية، فإن الأوضاع مرشحة، كل الوقت وفي أي وقتٍ للانفجار الشامل والواسع.
لا يمكن لكلّ الوعود والرشاوى التي يمكن أن تقدّمها إسرائيل، أو الولايات المتحدة، أن تؤدي إلى استسلام الشعب الفلسطيني، أو تنازله عن حقوقه الوطنية. كما لا يمكن لإسرائيل مع لابيد أو غيره، إلّا أن تكون دولة احتلال وفصلٍ عنصري، ودولة إرهابٍ مصيرها العزل، وهو المصير ذاته الذي انتهت إليه مثيلتها في جنوب أفريقيا.