الأجواء العامة في إسرائيل هي أجواء "عليهم... عليهم.. عليهم !". عليهم.. يعني علينا. فالتحريض هنا هو ضد العرب. فقد خرجت كل الأفاعي والجرذان من جحورها مستمتعة ب"الدفء" الذي وفرته لها نتائج الانتخابات الأخيرة والاتفاقات الائتلافية التي يتم توقيعها لتشكيل حكومة أقصى يمين عرفتها إسرائيل منذ قيامها، وسيطرة زمرة من المتطرفين العنصريين عليها تصر على تولي الوزارات التي تتعلق مباشرة بالعرب الفلسطينيين سواء داخل الخط الأخضر (أي داخل إسرائيل) أو في الأراضي المحتلة منذ حزيران للتنكيل بالعرب1967.
ألذي يتابع وسائل الإعلام الإسرائيلية وخاصة المرئية والمسموعة يستطيع أن يتيقن من الوتيرة العالية للتحريض ضد العرب بغض النظر عما اذا كانوا من فلسطين المحتلة عام 1948 وأصبحت تُدعى إسرائيل أو فيما تبقى منها ولم يتم احتلاله إلا في حزيران 1967.
ففي داخل الخط الأخضر تتعالى الأصوات للتحريض ضد أهلنا ممن بقوا يعيشون في الجزء من فلسطين التي أصبحت اسرائيل وأصبحوا تلقائيا ً من مواطنيها وخاصة في الجليل والنقب. ومن أجل ذلك كان هناك صراع بين كتلتي شاس واليهودية الصهيونية حول من سيتولى وزارة النقب والجليل لمنع نمو وتطور العرب وللاستيلاء على المزيد من أراضيهم ولتوطين المزيد من اليهود في الجليل والنقب لطمس طابعهما العربي وتهويدهما، وكذلك حول من سيتولى وزارة الأمن ومن سيكون مسؤولا ً عن الإدارة المدنية ومن سيتولى المسؤولية عن الاستيطان سواء في الضفة أو داخل الخط الأخضر لتطبيق ذلك أيضا في الضفة الغربية والقدس.
ومن كل البوادر التي أسفرت وستسفر عنها المفاوضات الائتلافية فإن الذين فازوا في العطاء هم الأكثر تطرفا وعنصرية.
لقد شكلت انتخابات عام 1977 في إسرائيل أو وصول اليمين الإسرائيلي الى الحكم بفوز كتلة الليكود بقيادة مناحيم بيجن قائد عصابة الاتسل (ارغون تسفائي لئومي) وزعيم حزب حيروت الذي نجح عام 1973 في تشكيل ائتلاف أحزاب الليكود من عدد من الأحزاب اليمينية تضم الحزب الليبرالي والمركز الحر والقائمة الوطنية وحركة العمل من أجل أرض إسرائيل الكبرى، ثم قرر هذا الائتلاف عام 1985 الاندماج في حزب واحد ظل يحمل اسم الليكود. ولقد كان فوزه في الأكثرية بالانتخابات عام 1977 بداية مرحلة جديدة إذ عُرفت تلك الانتخابات بالانقلاب (همخبخ).
ولقد شكلت الانتخابات الأخيرة في الأول من شهر تشرين الثاني هذا العام انقلابا ً آخر داخل انقلاب عام 1977. واذا صح القول بأن انتخابات عام 1977 كانت بداية عهد الجمهورية الثانية في إسرائيل التي سيطر فيها النهج اليميني على الحكم والسياسة وامتدت حتى العام الحالي 2022، فإن الانتخابات الأخيرة تشكل نقلة نوعية في جوهر الحكم وهي انقلاب على الانقلاب وبداية الجمهورية الثالثة الأكثر عنصرية وفاشية.
فإسرائيل هي إسرائيل. ولكنها تتلون كل بضع عقود من الزمن متجهة بشكل مضطرد نحو اليمين والفاشية. فإسرائيل من 1948 حتى 1977 كانت تخضع لسيطرة حزب ماباي ومشتقاته وأبرزها حزب العمل، وحليفه اليساري الاشتراكي التقليدي "مابام" الذي انقرض من الخارطة السياسية لغير رجعة. وكانت إسرائيل خلال هذه الفترة تخادع العالم بأنها دولة ديمقراطية اشتراكية وأنها أقيمت كملجأ لليهود من اضطهاد العالم.
ومنذ انقلا ب عام 1977 بدأت إسرائيل تكشف تدريجيا عن سياستها التوسعية من خلال توسيع الاستيطان وتبني سياسة علنية هدفها تكريس الاحتلال. ورغم تداول الحكم المتقطع أو اقتسامه بالتناوب بين الليكود وحزب العمل إلا أن نهج الليكود هو الذي ظل ملازما ً للحكم طيلة هذه الفترة مما يؤكد حقيقة أنه في القضايا الجوهرية التي تمت للفكرة الصهيونية لا فرق بين الطرفين.
وفي رأيي أن الانتخابات الأخيرة هي نهاية المراوغة وهي نزع القناع بشكل كامل عن الوجه الحقيقي للحركة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية الإحلالية، وهي بداية مواجهة أن نكون أو لا نكون.
وتشكل هذه المرحلة شن هجوم سافر شرس لاقتلاع العرب من أرضهم داخل وخارج الخط الأخضر. وهي مرحلة ستكتشف أنها أعادتنا نحن الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية الى جذورنا أي الى حقيقة أننا شعب واحد ينتظره مصير واحد وعليه خوض معركته واحدا ً متحدا.
الأصوات التي تعلو في إسرائيل تتحدث عنا بأننا "المستنقع" وأنه بدلا ً من قتل البعوض بالخمسات أو العشرات كل يوم يجب تجفيف المستنقع. ولا يجوز لأي مسؤول فلسطيني صاحب قرار أن يستهين بهذه المرحلة القادمة أو أن يتعامل معها بشكل ارتجالي أو عشوائي.
وفي هذا الصدد أذكر بأنني كنت حاضرا ً في اجتماع قيادي على أعلى مستوى برئاسة الشهيد القائد الراحل أبو عمار لبحث كيفية مواجهة الحكومة التي شكلها شارون عام 2001 وسط ضجيج طبول حرب ضد العرب تشبه الى حد ما تلك الطبول التي نسمعها هذه الأيام من جماعات بن جبير وسموترتش. وفي ذلك الاجتماع قال أحد الأخوة – لم يعد بيننا ولا داعي لذكر اسمه – إن أهم شيء يجب عمله هو كسر هيبة شارون وتبديد أسطورة أن شارون وحده هو القادر على تحقيق الأمن للإسرائيليين والقضاء على الإرهاب.
وأذكر أن هذا الطرح راق لبعض الحضور الذين لم يُخف بعضهم انبهاره من الفكرة. فكانت الانتفاضة الثانية ولكنها .. "خرجت من تحت السيطرة" .. وتحولت من عمل لكسر هيبة شارون وتبديد اسطورته الى كارثة أوصلتنا الى ما نحن فيه اليوم. وعلينا أن لا ننسى هذه التجربة وأن نظل نأخذها بالحسبان.
نحن بحاجة الى حوارات مسؤولة وطنية شاملة ومعمقة تشارك فيها كل الطاقات الفكرية والسياسية والوطنية للتوافق حول خطة ترسم لنا خارطة طريق حول كيفية التعامل مع المرحلة الجديدة آخذين بعين الاعتبار قدراتنا الذاتية عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ، وآخذين بالاعتبار كذلك إمكانية وجود شركاء لنا داخل المجتمع الإسرائيلي يرفضون العنصرية والتطرف ويعترفون بحقوقنا الوطنية ومستعدون للمشاركة في المواجهة معنا ضدهما، وآخذين بالاعتبار أيضا ًكل المعطيات المحلية والإقليمية والدولية وفرزها الى ما هو معنا وما هو ضدنا أو غير معني بنا، ومن ثم الالتفاف حول منهج واحد تحت راية واحدة لخوض طريقنا المستقبلي في المرحلة القادمة مرحلة مواجهة هذا الجنون.
إن من الجريمة بحق شعبنا أن يظل البعض يتمسك بالأساليب القديمة والكليشيهات الجوفاء والاعتماد عليها كخيار لا بديل له، ومن الجريمة بحق شعبنا أيضا جره الى مواجهة عنيفة دموية غير محسوبة هو غير معني بها أو غير قادر عليها، بالضبط كما هو الاستسلام للرضوخ والهزيمة.
العاصفة القادمة هوجاء. وثباتنا على الأرض هو أقوى سلاح لمواجهتها، والقرار المصيري الفلسطيني لا يجوز أن يكون ملكا ً أو حكرا ً لأحد بل هو قرار جماعي يتحمل الجميع مسؤولية اتخاذه وتنفيذه ونتائجه.