للمرة الثالثة أكتب عن خضر عدنان، ولم أفعلها سوى مع ياسر عرفات ومحمود درويش، أن اكتب أكثر من مقالين عن نفس الشخص. فقد زاحم عدنان الكبار لأن الترميز تجسد في إرادة تجاوزت عاديات الأشياء في صراعات الشعوب، وتسامت كثيراً في جسد لا يمتلك غيره ليصنع منه سيفاً ودرعاً للنزال قبل أن يسقط في ساحة المعركة الأخيرة.
فاجأنا خضر عدنان في شباط 2012 حين خاض أصعب معاركه في الإضراب وحده، وأخذ على عاتقه التحدي بجسده النحيل دولةً تتسلح بالقنبلة النووية ...وانتصر... لأكتب مقالاً بعنوان «خضر عدنان يعيد اكتشاف إرادتنا» لأنه عاد منتصراً من غبار المعركة وسط خيمة الفلسطيني التي تعج بالهزائم لكثرة ما فعلوا بأنفسهم منذ تقاتلوا على الحكم ونزلوا عن الجبل اختلفوا لحظة توزيع غنائم السلطة البالية، وفي ذروة الهزيمة كان عدنان يدل الفلسطينيين على ذاتهم ويعيد اكتشاف ممكنات القوة بعد أن استسلموا للوهن.
في حزيران الشاهد دوماً على الهزائم لمصادفات التاريخ قبل ثماني سنوات كان عدنان يخوض مرة أخرى معركته وحيداً. فقد قرر الوقوف ضد أسوأ ما تمارسه إسرائيل من اعتقال اداري بدون تهمة أو لائحة اتهام، وفي إسرائيل يمكن تفصيل تهمة لكل فلسطيني تحت هذا البند. حينها بدا للحظة أن عدنان ضعيف البنية والوارث للمرض يصر على الذهاب بعيداً في النهاية التي يصممها لنفسه كما أبطال الأساطير الذين يصممون موتهم المدوي، لأكتب المقال الثاني بعنوان « نهاية رجل شجاع « مستلهماً من رواية حنا مينا ما يليق بوصف الرجل، لكنه انتصر وأرغم دولة بكاملها أن تتراجع وتطلب من زوجته أن تتدخل حين جاءه ضابط المخابرات إلى المستشفى.
وإذا كنتُ كتبت عن عرفات ودرويش بعد رحيلهما فقط عدداً من المقالات، فإن عدنان هو الوحيد الذي كتبتُ عنه أكثر من مرة في حياته، وتلك لم أفعلها ليس فقط لأن الرجل بعيد عن سلطة تغدق الجزايا والعطايا على الكاتب، بل لأن تاريخه الذي تبدّى ومسيرته يطمئن أن صاحب تلك الإرادة لن يخذل من كتبوا عن بطولته على نمط المحرر سيمون بوليفار الذي اقترح عليه الأصدقاء أن يقيموا له تمثالاً فقال قولته المشهورة «أما الأحياء فلا يقامُ لهم تماثيل، فقد يغدرون أو يخونون في آخر لحظة».
لكن الإرادة التي يختزنها جسد عدنان كانت تعطي ما يكفي من الثقة لإقامة تماثيله حياً وقد كان، فقد سار نحو نهايته واثقاً من خطاه كأنه يكثف بجسده الصغير رواية شعب لا يملك أسلحةً سوى الصبر والعناد.
لكن السؤال الجارح للفلسطينيين الذين تركوا عدنان وحيداً يصارع دولة بأكملها، وحيداً يخوض معاركهم، وحيداً يموت في زنزانته دون أن يرفعوا كل الإشارات الحمراء في وجه اسرائيل التي كانت تستسهل موته وهي تراقب المتفرجين من سلطة وفصائل وشعب، وهذه الأخيرة لـ «لامبالاة الشعب» هي أسوأ ما يحدث للفلسطينيين في أعوامهم الأخيرة، حيث خصخصة نضالهم الوطني العام وتناثر قضيتهم بين الفصائل المتعاركة والأفراد. ففي اليوم الخامس والخمسين من إضرابه كتب خضر عدنان رسالة الوداع، ولم يكن مازحاً وهو يقول لشعبه «أنا أموت»، لكن الشعب خذله هذه المرة وتركه بين الانياب تفترسه بلا رحمة، وليس هناك ما يمكن أن يغطي الخيبة أكثر مما كتبه الشاعر زكريا محمد يوم أطلقت عائلة الشهيد نداء للتضامن على دوار المنارة في رام الله ليجد الشاعر نفسه وحيداً مع أسرة عدنان الصغيرة وهي تناشد شعباً يدير ظهره لأبطاله ليختصر المشهد قائلاً «يا عيب الشوم.. يا عيب الشوم».
الكتاب المؤلم الذي كتبه الكاتب الياباني نوبوأكي نوتاهارا «العرب وجهة نظر يابانية» قدم افضل تشخيص لأمراض الأمة العربية، ويستحق الكتاب عدة مقالات لأنه يهز حاضر العرب بشدة حد الإفاقة، فقد توقف عند مأساة خضر عدنان وهو يتساءل عن تضامن العرب مع من يتضامن مع قضاياهم حين قال «السجناء السياسيون في البلدان العربية ضحوا من أجل الشعب، لكن الشعب نفسه يضحي بأولئك الأفراد الشجعان... إن الناس يتصرفون مع السجين السياسي على أنها قضية فردية». هكذا بدت قضية عائلة عدنان الفردية ولم يتضامن معها سوى شاعر تجرد من رصانة القصيدة وصفع شعباً خذل ابنه وتركه يموت وحيداً في الزنزانة، وبعدها فقط ...أطلق حناجره للريح.
قالت زوجته في اللحظة البريئة والحزينة وقبل أن تتواصل معها الفصائل تطلب حفظ ماء الوجه «من لم يقف مع زوجي في محنته لا نريد منه أن يقف بعد رحيله». هكذا كان الأمر بأوضح صورة في حياة ورحيل رجل بسيط تمكن من السمو حد البطولة ضد الاحتلال، وحّد محاكمة الشعب وفصائله بتهمة الخذلان... جاء وغادر حاملاً وجع وجوع وظلم شعب كامل، جاء عنيفاً في إرادته ومشى كما قال درويش فقيراً كالصلاة.... ووحيداً كالنهر في درب الحصى .... ومؤجلاً كقرنفلة.