بينما يُبرّر نتنياهو وبعض من فريقه أسباب ضعف الردّ الإسرائيلي على غزّة، ويتحمّل الكثير من الانتقادات الجارحة حتى من بعض حلفائه في الائتلاف الحكومي، تجري نقاشات على المستوى الأمني والعسكري إذا ما كان على إسرائيل أن تشنّ في الضفة الغربية عملية على غرار "السور الواقي - 2002".
فريق نتنياهو يتحدّث عن أن أولوياته تقع في الضفة، وإيران، بما يعني أنه ليس مهتماً، ولا يرغب في الدخول في مواجهة عسكرية مع "المقاومة" في قطاع غزّة، ربما تؤدّي إلى تحريك ساحات أخرى.
ولتأكيد هذا الادّعاء، شنّت القوات الإسرائيلية حملة على نابلس في اليوم التالي لعدوانها الأخير على غزّة، وقامت باغتيال ثلاثة مقاومين.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ بل تابعت القوات الإسرائيلية حملة اغتيالات طالت مقاومين آخرين في جنين وأريحا.
الحملات الإسرائيلية على المدن والقرى والبلدات الفلسطينية لا تتوقّف ويظهر للعلن، أن المصادر الاستخبارية الإسرائيلية، تحقّق نجاحاً في التعرّف على المقاومين الذين ينجحون في قتل إسرائيليين وتحّقق نجاحاً في معرفة أماكن تواجدهم، بما يُسهّل عليها اصطيادهم.
المعركة في الضفة والقدس مفتوحة، وهي تستهدف من جانب حكومة اليمين العنصري الفاشي حسم الأوضاع، ليس لأن ذلك الهدف أساسي وإستراتيجي لمثل هذه الحكومة وإنّما، أيضاً، لأنّ تحقيقه من شأنه أن يُعيد الاعتبار لأطراف الائتلاف الحكومي وعلى رأسهم "الليكود"، الذين تتدهور مكانتهم حسب استطلاعات الرأي المتلاحقة.
مستقبل نتنياهو شخصياً والذين يشكّلون عصب حكومته مرهون بأمرين: تمرير الإصلاحات القضائية، وضمان استمرار الحكومة لسنواتٍ أخرى، وتحقيق هدف السيطرة على الضفة والقدس.
الحكومة الإسرائيلية تُجنّد في الضفة عشرات آلاف الجنود المُدجّجِين وميليشيات المستوطنين المسلّحة، وأجهزة استخبارية قويّة تعتمد وسائل تكنولوجية عالية القدرة على الرصد، بالإضافة إلى "المُستعربين" والعُمَلاء، الذين يندسُّون بين الفلسطينيين.
في هذه الحرب، لا تكفي الشكاوى والمطالبات للمجتمع الدولي، ولا يكفي العزف على وتر صُمود الشعب، وقوّة إرادته واستعداده لخوض التحدّي والتضحية، ولا يكفي دعوة الفصائل لتصعيد المواجهة وإصدار بيانات التأييد للمقاومين.
ينبغي الوقوف مليّاً أمام مُحصّلة الشهداء الفلسطينيين منذ بداية العام والتي تجاوزت المئة وعشرة شهداء، من خيرة الشباب الذين ضاقُوا ذرعاً بالاحتلال وبأداء السلطات والفصائل الفلسطينية، وشقُّوا طريقهم إلى ملء الفراغ بين الحسابات السياسية المتضاربة.
إزاء ذلك، لا يمكن الاستمرار في تقويم مثل هذه التضحيات عالية الثمن، اعتماداً على صدورٍ حامية، وإرادة عالية، على التحدّي.
صحيح أن تضاريس الضفة، تصلح لأعمال المقاومة العصابيّة، و"الجيفاريّة"، ففيها الوديان، والكُهوف والجبال، والغابات، ولكن اللجوء لمثل هذه المقاومة أمام القدرات الهائلة التي تُجنّدها إسرائيل، لا يُساعد المقاومين على تحقيق الانتصار.
البيئة الشعبية، باعتبارها الحاضنة للعمل المقاوم والمقاومين مسألة مهمّة، وهي متوفّرة بالعموم، لكنها مخترقة بالعُمَلاء، و"المُبلّغين"، و"المُستعربين"، ووسائل التجسّس الأخرى.
لا يعني ذلك أنّ هذه البيئة غير صالحة، بل إنها كذلك شرط اتّباع أقصى درجات اليقظة والحذر لدى المقاومين.
اليقظة والحذر، تعني عدم استخدام وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، واعتماد نظام دقيق للاستطلاع، قبل الحركة، وعدم الاشتباك في معركة محسومة لصالح العدوّ.
على أنّ ثمة ما يقتضي التنويه له، بالنسبة للمقاومين. فالضفة في ضوء التعقيدات المعروفة والمكشوفة، وانتشار قوات العدوّ بكلّ أفرعها وأدواتها، لا يستوي معه الاستسلام للعلنية.
الظُّهور العلني للمقاومين في الجنازات والأفراح والمناسبات، والتباهي بحمل السلاح، يقدّم للعدوّ، فرصة مهمّة للتعرُّف على المقاومين، وأنواع أسلحتهم وأماكن تواجدهم.
إنّ العمل السرّي المنظّم، والتنسيق بين المجموعات المقاومة، هو السبيل الأفضل لتقليل الخسائر في الجانب الفلسطيني.
فضلاً عن ذلك، فقد لاحظنا أنّ العدوّ المُهاجِم قد وقع أكثر من مرّة في كمائن ينصبها المقاومون، لكنّ الحصيلة تكون ضعيفة، ما يدلّ على ضعف المستوى التدريبي لدى المقاومين، وربّما، أيضاً، ضعف الوسائل القتالية نظراً لصعوبة الحصول على الأفضل منها.
أفترض أن المقاومين عليهم أن ينتبهوا إلى أنّ البيئة المحيطة معادية، ما يفترض، أيضاً، اتخاذ التدابير الاحترازية الضرورية، حتى حين يعتقدون أن الحاضنة، والبيئة آمنة ومناسبة لتحرُّكاتهم.
في مثل هذه الظروف فإنّ المقاومة الشعبية السلمية وانخراط الآلاف من النّاس في هذه المقاومة، ينطوي على مُميّزات مهمّة للمقاتلين.
ومع احترامنا وتقديرنا، لكلّ الشهداء الذين سقطُوا في هذه الحرب، فإنّ الحكمة تقتضي ألا يسعى المقاومون لنيل الشهادة قبل أن يكبّدُوا المحتلّ أثماناً باهظة، طالما أنّهم يندفعون نحو نيل الشهادة من أجل تحقيق الحرّية لشعبهم.
بات من الضروري على الفصائل، كما على الشباب المقاوم المستقلّ، أن يُراجِعُوا هذه التجربة المكلفة، وأن يستخلصوا دروسها ويستفِيدُوا منها قبل أن يفقد الشعب المزيد من أبطاله الميامين، خصوصاً أنّ الشعب الفلسطيني يخوض معركة طويلة يحتاج إلى نفسٍ طويل وصبر، والاقتصاد في قدرات المقاومة.