في السياسة يبقى الباب دائماً موارباً؛ لأن فرص اللقاء والحوار تبقى واردة وغالباً مطلوبة، فمن يمتهن العمل السياسي يعرف أنه ليس هناك عداوات دائمة ولا صداقات دائمة ولكن هناك مصالح دائمة، كما قالالزعيم البريطاني ونستون تشرشل.
ومن جانب آخر، تعوَّد الإسلاميون القول: إنَّ "السياسة مصالح تحكمها المبادئ"، وهذا أمر لا نختلف عليه من الزاوية القيمية والأخلاقية، وإن كانت هناك صعوبات وإكراهات تُجبرك أحياناً على تبرير التجاوزات.
إنَّ المشكلة مع دحلان أو النائب محمد دحلان (أبو فادي) أننا في سنوات الخلاف والخصومة السياسية مع حركة فتح ألبسناه ثوب الشيطان، وأفرطنا في سوق الاتهامات الجارحة وطنياً، وقطعنا الطريق أمام إظهار أي حسنة للرجل، وكذلك كان الحال من جانبه، إذ لم يدَّخر وسعاً في الحديث عن ظلامية حركة حماس والتشكيك في أهدافها ومنطلقاتها الوطنية!!
للأسف؛ أخذت الخصومة كلَّ طرفٍ منهما بعيداً إلى دائرة اللجاجة والفجور، مما عاظم من سلوكيات القطيعة والابتذال، وتقديم الخطاب المشحون بالكراهية والعداء وتبادل الملاعنة والاتهام!!
هوناً ما.. المعادلة الغائبة!!
ومع تعثر فرص تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام المتكررة، كانت تتعالى نبرة الملاسنات، إذ لا صوت يعلو فوق صوت المناكفات، ولم نسمع بحكمة "هوناً ما" كمسطرةٍ للتوازن والقياس بين معادلتي الحب والبغض.
نعم؛ جاءت فترة كان فيها دحلان في عين العاصفة، ولم نرقب فيه إلَّاً ولا ذمة، ولا يجرؤ أحدٌ على ذكره بخير، وتمَّ النظر إليه باعتباره "العدو الأول" لحركة حماس، وأي ذِكرٍ لأسمه بأي خير هو حالة من الخروج عن دائرة الولاء والبراء.
للأسف؛ امتدت فترة القطيعة والاتهام طويلاً، إذ جرى تغذيتها بالكثير من صيغ العداء والكراهية بعد الأحداث الدامية في 14 يونيو 2007، والتي اعقبتها حالة التشظي والانقسام، حيث أرخى الليل سدوله على مشهد السياسة والحكم، وانتهينا إلى مشهدية بغيضة منالمناكفة والتنابز بالألقاب، وطال الجميع الكثير من صيغ الاستهدافوالمُناكفات ومما لم نشهد له مثيلاً -في السابق- من صراعات الفصائل والأحزاب.
ومع إطالة أمد الخصام وحالة الانقسام وتداعياته القاسية على الشعب والقضية، كان لا بدَّ من قرع الجرس، فالرياح لا تجري لصالح أحد، فالكلُّ خاسر، ولن يستطيع أيُّ فيصل شطب خصمه من مشهد الحكم والسياسة، وأنَّ خيار الضرورة وطوق النجاة هو تجاوز هذه الحالة من المراوحة في المكان، والتي أذهبت العافية وأرجعت قضيتنا سنواتوسنوات للوراء.
في الحقيقة، بدأت أشعر -ومن فترة ليست بالبعيدة- أنَّ الحركة آخذةٌفي إدراك ذلك، وأيضاً بدأ دحلان وبعض المقربين منه يصل إلى نفس القناعة، إذ أنَّ كلَّ جهود المصالحة التي بذلتها الفصائل الفلسطينية والوجهاء باءت بالفشل الذريع، كما أنَّ كلَّ الوساطات والمبادرات العربية والإسلامية وحتى الدولية لم تُكلل مساعيها بالنجاح، وظل الاحتلال يستثمر بأريحية عالية في هذه الحالة من القطيعة والتشرذم، إذ توسَّع الاستيطان بشكل مخيف، وتعاظمت لغة التهديد والوعيدالإسرائيلي التي طالت الجميع، وأصاب الوهن جراء ذلك لغة الخطاب المقاوم، وبدا وكأن إسرائيل نجحت في سياسة التفريق بيننا، ولم يعد لنا من قول إلا اتهام بعضنا البعض وربما أكثر من ذلك.
لقد بادرتُ إلى مخاطبة الطرف الإسلامي وطرف دحلان وتيار فتح الإصلاحي بأنَّ المسؤولية الوطنية تفرض علينا إحداث تغييرٍ في نظرة كلّ منَّا تجاه الآخر، وأنَّ نقطة الانطلاق تكمن في معالجة لغة الخطاب، فكما أنَّ "الحرب أولها كلامٌ" فإن فرص الانفراج والتقارب واللقاء يصنعها أيضاً الكلم الطيب والقول الحسن.
دبلوماسية الموائد: المدخل والحوار
وبعيداً عن التواريخ والمناسبات، فقد حدثت المغازلة ومساعي التقريبمن جهة الطرفين، وبدأنا نسمع من تصريحات هذا الطرف أو ذاك ما يبل الصدى ويبعث على الاطمئنان، حيث غدا التحاور بدردشات هنا وهناك أو على هامش ندوة سياسية ودعوة عشاء بديلاً عن أدبيات الثنائي والخصام، وسادت لدى الطرفين القناعة كما يقول ابن زيدون:"الحرُّ مَنْ دانَ إنْصافاً كما دينَا"؛ أي لا تعيرني ولا أُعيِّرك فالصلح خير.
نعم؛ قد يعود الفضل في ذلك لبعض الإخوة في كلٍّ من حماس وجماعة دحلان وبعض المقربين منهما، وأذكر منهم: د. غازي حمد، وصلاح البردويل والنائب يحيى موسى والصديق د. سفيان أبو زايده ونضال خضرة، وهناك أبضاً د. حسام الدجني ورجل الأعمال المهندس هاني أبو عكر وآخرين. ومن طرفي، فقد تحمّلت الكثير جراء فتح الحديث في الموضوع والكتابة عنه، حيث كانت القلوب -آنذاك- لم تزل "مليانة"بالكثير من أشكال الغُصِّة والتحامل، وحالة الاحتقان لم تهدأ وتائرها بعد.
ومع هذه التوجهات لرأب الصدع بدأنا نتنفس الصعداء، واتسعت فُرص الحوار أكثر والحديث عن الخيرية وفضائل اجتماع الشمل لمصلحة شعبنا، الذي انهكته جبهات الصراع، وأخذت بتلابيبه تداعيات الانقسام الداخلي.
إنَّ من أبجديات الحكمة القول: في مرحلة ما من التوتر والصراع السياسي كان على كلٍّ منَّا أن يفهم بأنَّ النقد ليس إهانة، والخلاف ليس خيانة، ولكن -للأسف- كان الطرفان على غير ذلك، فالتنائي كانبديلاً عن التداني، وكان هناك بين الفصائل من يُطربه -وأسفاه- سماع "رهج السَّنابك" ولعلعات "حمي الوطيس" بين أبناء الوطن الواحد!!
انفراجة.. طال انتظارها!!
اليوم، وبعد معاودة قراءة تلك المشهدية من سنوات الصراع، فإنَّ علينا أن نُقرَّ ونعترف بأنَّ هناك تغيراً طرأ على شكل العلاقة بين الطرفين من حيث الخطاب، كما أنَّ طبيعة الدعم الإغاثي والمساعدات الإنسانية لقطاع غزة التي يقدمها دحلان من خلال الإمارات قد تضاعفت بشكل عام، ولقد سمعت من دحلان كذلك إشادات على كلٍّ من محمد الضيف والشهيد د. عبد العزيز الرنتيسي (رحمه الله) من حيث طهارة السيرة والمسيرة، كما أن موقف الرجل من مسألة التطبيع والتي أظهرها بيان التيار الذي يترأسه والرافض لهذا التوجه، وإن كانت ظنون الخصوم تذهب في غير هذا الاتجاه.
إن المقاربات التي أبدتها حركة حماس في علاقاتها الخارجية أظهرت الكثير من الدبلوماسية والرغبة في التواصل والانفتاح، فالتحرك باتجاه سوريا والمملكة العربية السعودية هو نتاج لتلك السياسة، التي تطمح بألا تكون هناك خلافات مع أحد، والاجتهاد أن تبقى شعرة معاوية قائمة على ركائز "احبب حبيبك هوناً ما.. وأبغض بغيضك هوناً ما"، حيث إن ديدن السياسة هو التقلب بحسب ما تقتضي المصالح والضرورات.
وكما شاهدنا خلال العشرية الماضية كيف استعرت صور العداءومظاهر البغضاء بين عدة دول خليجية ودولة قطر، وفي لحظة ما وبدون مقدمات حدثت الانفراجة، وانزاحت الغمَّة وتعانق السياسيون،وكأن لم يكن هناك الكثير من المكر السيء والملاعنة والاتهام!!
اعتقد بعد المصالحة الخليجية، وانفراج العلاقة بين تركيا أردوغان وكلٍّمن الإمارات والسعودية، وبين كلٍّ من إيران والسعودية، فإن هناك حاجة لحدوث مقاربة بين حماس وكلٍّ من السعودية والامارات، وأيضاً خطوة أكثر اتساعاً وحميمية من حماس باتجاه احتضان تيار فتح الإصلاحي وزعيمه النائب محمد دحلان.
تصفير المشاكل: خطوة في الاتجاه الصحيح
إنَّ علينا أن نعمل على "تصفير المشاكل" مع الجميع، فالتحديات التي تواجهها قضيتنا تحتاج إلى "الكلّ الفلسطيني" من ناحية، والنظام العربي والإسلامي من ناحية ثانية.
لقد تابعت الكثير من المقابلات التي أجراها دجلان على عدد من الفضائيات العربية، وقد لمست نضجاً سياسياً وحرصاً على التقارب والتعاون مع حركة حماس بما يخدم تعزيز جبهتنا الداخلية، وربما تنشأ بيننا مستقبلاً تحالفات حزبية في سياق شراكات مشهد الحكم والسياسة.
لا شكَّ بأنَّ حالة الشنآن التي كانت أحد تجليات الخلاف بيننا قد زالت، بعد أن التقى الأخ يحيى السنوار وعدد من قيادات الحركة بالأخوين محمد دحلان وسمير المشهراوي في يونيو 2017، والتي مهَّدت الطريق لاتساع دبلوماسية التلاقي والحوار على مائدة هذا الطرف أو ذاك، كما أنَّ الاسهامات التي أشرف عليها التيار كمساعدات طبية وإغاثية من دول الإمارات قد أسهمت هي الأخرى في تلطيف الأجواء وبناء مستويات من الثقة بين الجانبين يمكن الاعتداد بها والاعتماد عليها أكثر، خاصة ونحن نضع خطوطنا العريضة لاستراتيجيات المواجهة، ونرسم ملامح مستقبل صراعنا مع العدو الصهيوني، الذي يستهدفنا جميعاً كشعبٍ وقضية.
ختاماً.. إن من أراد أن يتعلم السياسة فعليه أن يقرأ التاريخ، إذ كم هناك من الخصوم ممن كان بينهم ما صنع الحداد قد جمعهم بعد طول خلاف بساط أحمدي، وكما قالوا "ما محبة إلا بعد عداوة".