في قراءة من جانب آخر لمسيرة الأعلام الاسرائيلية الاستفزازية، في مدينة القدس المحتلة وفي مدينة اللد والرملة ويافا ومدن فلسطينية أخرى، نلحظ محاولات المحتل المستميتة للبحث عن سيادة مفقودة، اذ أن هذا الشعور الذي يرافق الاسرائيليين في هذه البلاد أنهم لم يجدوا السيادة الموعودة التي يبحثون عنها بالرغم من مرور كل سنوات التيه ال٧٥.
وعلى الرغم من السيطرة الاسرائيلية الكاملة على الأرض، بفعل القوة العسكرية المتواصلة والمستمرة وتبعتها سياسات القمع والخنق، وهذه السياسات التي ميّزت اسرائيل منذ نشأتها، الّا أن هذه السيطرة لم توفر لهم الشعور الحقيقي بالسيادة الحقيقية وبقي يرافقهم الشعور الدائم بالنقص؛ ونستطيع أن نقول، في هذا الجانب، لم يتغيير واقع إسرائيل، منذ نشأتها وحتى هذا اليوم.
إن عسكرة الحياة المدنية الاسرائيلية واضح للعيان خاصة في كل ما يتعلق بالنظرة إلى العرب ولوجودهم وخاصة أنه أصبحت النظرة لمجرد الوجود العربي القوي والمؤثر عنصر قلق عند المجتمع الإسرائيلي وصناع سياساته لأنه دائماً يذكرهم بالحقيقه التي يردون أن يغيبوها وهي أن لهذه الأرض أصحاب، فأصبح التعامل مع التأثير العربي كخطر قومي وأصبحت رموزهم الدينية والوطنية تذكرهم ايضاً بالحقيقة لذا فقد أصبح الوجود والتأثير والرموز عرضةً للملاحقة السلطوية الإسرائيلية.
ونستطيع أن نقول بكل ثقة ومن خلال رصد السلوك الإسرائيلي على مدار السنوات ال٧٥ الماضية أنه لا وجود لحياة مدنية حقيقية في إسرائيل. فكل شي يتحرك بالمفهوم العسكري، وبلغة السلاح والقتل، وملاحقة الخصوم السياسيين عسكرياً وأمنياً؛ وما زالت منطلقات النظرة الاسرائيلية للحياة المدنية، بما يتعلق بالوجود العربي ، يرتكز بالأساس على المنظور الأمني.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى البعد الأيدولوجي الديني في السياسة الاسرائيلية الذي يستمد منطلقاته على المفاهيم التلمودية التي تبناها المشروع الصهيوني عند إقامة مشروع إسرائيل على الأرض المباركة أرض بيت المقدس.
في ظل هذا التيه الذي يعيشه المشروع الصهيوني الإسرائيلي على ارض فلسطين تأتي مسيرة الأعلام هذه لترمم النزيف المعنوي الذي يعاني منه الإسرائيليون بسبب الفجوة الكبيرة بين الوعود التي وعدها إياهم حاخاماتهم والمرتكزة على الوعودات التلمودية وبين الواقع الذي تحقق على الأرض، هذه الفجوة أدت إلى ضجر المجتمع الإسرائيلي من الانتظار لتحقيق الوعودات المزعومة.
إن تجند كل القوى الحزبية والسياسية الإسرائيلية لهذه المسيرة مع موجة إعلامية إسرائيلية غير مسبوقة ورسائل التطمين للمجتمع الإسرائيلي التي أطلقها ضباط الشرطة الإسرائليين بهدف تشجيعهم على المشاركة في اقتحام الأقصى وفي مسيرة الأعلام، وتجنيد القوات الإسرائيلية بكل اذرعها سواءً الشرطية والمخابراتية والجيش ورفع حالة التأهب إلى الدرجة القصوى، من أجل رفع العلم الإسرائيلي في مدينة القدس لهو الدليل الأكبر على فقدان هذه السيادة وإنعدام أي فرصة لفرضها بالشكل الطبيعي سوى استعمال النفير والصوت المرتفع وخلق الأجواء المعادية واجواء الكراهية على العرب طمعاً منهم بتحقيق وعد مزعوم لن يتحقق مهما ملكت إسرائيل من عناصر القوة العسكرية او النفوذ العالمي او انسجام النظام الرسمي العربي.
إن مرور ٧٥ عاماً على إقامة إسرائيل و٥٦ عاماً على احتلال القدس لم يعط إسرائيل أي سيادة حقيقية على الأرض المباركة ولم ينزع عنها سيادتها الحقيقة، سيادة أصحاب الأرض والوطن والمقدس، على الرغم من كل سياسات التضليل والزيف والاستسلام العربي والتنسيق ونشر الفساد وسياسات تفتيت النسيج الاجتماعي لأصحابها الحقيقيين.
لن تستطيع مسيرة الأعلام مهما علا صوتها أو كثر عدد الأعلام المرفوعة فيها أن تغيير واقع السيادة، وكما أن السيادة الحقيقية لا تفرض بقوة السلاح والحديد والنار، وكما أن القوة وحدها لا تعطي شرعية والضعف وحده لا ينزع سيادة، فإن صمود أصحاب السيادة وثباتهم في وطنهم وحفاظهم على أرضهم وبيوتهم وحماية نسيجهم الاجتماعي كفيل أن يفشل كل المحاولات البائسة التي تبحث لها عن موطئ قدم في الأرض المباركة، فما بالكم إن كان تأييد الله سبحانه لهم ونصرته لهم وهم وحدهم، وليس غيرهم، وعد الله على هذه الأرض.
أرادوا ان تكون مسيرة الأعلام مسيرة فرض للسيادة المفقودة ولكنها في الواقع كشفت هشاشتها وزيفها وأعادت الثقة لأصحاب الأرض بإمكانية اعادتها الى حقيقتها.