لا يرغب المجتمع الدولي في أن يرى إسرائيل، وهي تخلع أقنعة التجميل، التي تستخدم كوسيلة ليس أكثر، للادّعاء بأنّ دولة الاحتلال تنتمي إلى عالم قيم الديمقراطية.
الدول الحليفة لإسرائيل ظلّت تعمي شعوبها عن الحقيقة، بالقول، إن هذه الدول الصنيعة، هي واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وذلك لتبرير التدفقات المالية والعسكرية لدولة تحتل أرض شعب آخر، وفق القرارات الدولية.
على أن التطور الطبيعي لدولة الاحتلال، يدفعها بقوّة نحو إزالة كافة الأقنعة التي تتستّر بها، وتبرر تلقيها الدعم من حلفائها لكي ينكشف الأمر واقعياً على دولة عنصرية فاشية لا تنسجم إطلاقاً مع قيم الديمقراطية.
بعد إقرار قانون القومية الذي يشكل الأساس القانوني لنظام عنصري، واصلت الحكومات المتعاقبة اتخاذ جملة من القوانين والإجراءات التي تؤكّد الطابع العنصري للدولة.
وبعد وصول الائتلاف "اليميني" الحاكم منذ بداية هذا العام إلى الحكم كشفت سياسات الحكومة عن طبيعتها الفاشية، وبذلك تكون قد أكسبت النظام السياسي للدولة، خصائص تعكس طبيعتها وتقدم نفسها للعالم، على أنها تشكل تهديداً للأمن والسلم في منطقة الشرق الأوسط، وبأنها دولة مارقة على التاريخ وعلى القانون الدولي.
حكومة بنيامين نتنياهو تتابع ما كانت تفعله الحكومات التي سبقت والتي وضعت منظمات المجتمع المدني الفلسطينية والإسرائيلية في المهداف.
كانت الحكومة السابقة قد أخرجت ستّ منظمات فلسطينية من بينها منظمات حقوق إنسان، عن القانون.
لم تتراجع إسرائيل عن إجراءاتها بحق تلك المنظمات، رغم الانتقادات والاحتجاجات الكلامية التي صدرت حتى من حلفائها الأميركيين والأوروبيين.
كان سلوك الحكومة الإسرائيلية، مؤشرا قويا على مدى الضيق الذي تتسبّب به لها منظمات المجتمع المدني، وخصوصاً منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية أساساً والإسرائيلية، أيضاً.
إسرائيل وظّفت إمكانيات مادية، وسياسية ودبلوماسية هائلة في ملاحقة منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية على المستوى الدولي، وقد ساعدتها في ذلك الولايات المتحدة. منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية الكبرى: "مركز الميزان"، و"الحق"، و"المركز الفلسطيني"، خضعت لعمليات تحريض واتهامات، بدعم الإرهاب لتحريض الدول الأوروبية المانحة على وقف دعمها لتلك المنظمات، وقد وجدت عمليات التحريض آذاناً صاغية من بعض الدول الأوروبية التي بدأت تفكر في تجنب هذا الصراع بتقليص تمويلها، وتحويله إلى قطاعات أخرى.
ما تقوم به إسرائيل لتجفيف التمويل عن منظمات حقوق الإنسان يشكّل شهادةً قوية لصالح الدور الكبير والتاريخي والفاعل الذي تقوم به تلك المنظمات في فضح الممارسات الإسرائيلية، ونحو تقديمها لـ"العدالة الدولية".
لكبح هذا الدور الكبير، بادرت الحكومة الإسرائيلية لتقديم اقتراح قانون للكنيست يقضي بفرض ضرائب بمعدل 65% على التبرّعات التي تقدمها كيانات أجنبية بما في ذلك هيئات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للمنظمات غير الربحية الفلسطينية والإسرائيلية.
لا يخرج هذا التفكير من قبل حكومة نتنياهو عن نهجها الذي يؤدي بالضرورة إلى نزع كافة الأقنعة عن الديمقراطية الزائفة، إذ انه يكمل المحاولات الجارية لتحقيق الأهداف التي تقف خلف ما يُعرف بالانقلاب القضائي.
"المعارضة" الإسرائيلية التي تعود إلى الشارع من جديد، لا تختلف مع حكومة نتنياهو إزاء هذا العنوان، فهي كانت قد شنّت حرباً على منظمات المجتمع المدني، خصوصاً منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية.
وحتى لو أن "المعارضة" الإسرائيلية أدركت أبعاد مشروع القانون الجديد، بما أنّه جزء من الانقلاب الديمقراطي فإنها لا يمكن أن تقف ضد مشروع القانون لكونه يستهدف الفلسطينيين.
مشروع القانون الجديد، أثار ضجّة كبيرة، واعتراضات مهمّة من قبل الإدارة الأميركية، ودول من الاتحاد الأوروبي، وذلك انطلاقاً من رؤية هؤلاء للدور المهمّ الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في الدول التي تنتسب لمنظومة الديمقراطية.
تُقدّم ردود الفعل الأميركية والأوروبية على مشروع القرار الذي يتصل بمنظمات المجتمع المدني، دلالةً واضحة وأكيدة على قدرة هذه الدول، في التأثير على السياسات الإسرائيلية حين ترى ذلك ضرورياً، ما يعني أنّها متهمة بالتواطؤ والتستُّر ودعم سياسات وإجراءات الاحتلال الإسرائيلي.
تضطر حكومة نتنياهو لتأجيل تقديم مشروع القرار أمام الضغط الأميركي، الذي تعترف إذاعة الجيش الإسرائيلي بمدى أهميته.
تقول إذاعة الجيش، "سَلّم كبار المسؤولين في البيت الأبيض الأميركي رسائل إلى مكتب رئيس الوزراء نتنياهو مفادها.. إذا كنت مهتماً بالقدوم إلى اجتماع في واشنطن مع جو بايدن وكنت مهتماً بمساعدة من الرئيس لتعزيز (التطبيع) مع السعودية فقُم بإزالة مشروع القانون الذي من شأنه أن يُلحق الضرر بأنشطة المجتمع المدني من جدول الأعمال".
تأجيل تقديم مشروع القانون، لا يعني إلغاءه، ولا يعني العودة عن الفكرة والهدف، ما يعني أنّ إسرائيل ستعود له في وقتٍ لاحق وظروفٍ مناسبة.
على الجانب الآخر، ينبغي على السلطتين في رام الله وغزة، وأيضاً على فصائل العمل الوطني، أن تفهم الدرس، وأن تعيد النظر في سياساتها وإجراءاتها، التي تضيق مساحات العمل أمام منظمات المجتمع المدني.
لقد تعرّضت مؤسسات المجتمع المدني ومنها منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية إلى اتهامات لا أساس لها، وألقيت عليها، حجارة من الوادي الفلسطيني، وجرت محاولات لاحتوائها، أو خلق بدائل منافسة لها.
تحتاج منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية إلى الدعم السياسي والمادي والمعنوي، وهي تتابع هذه الأيام مبادرة لإنشاء تحالف دولي بما في ذلك منظمات حقوقية إسرائيلية، لتوسيع دائرة العمل دولياً لمحاصرة السياسات الإسرائيلية، وفضحها، وتعزيز التحولات من الرأي العام العالمي، وصولاً إلى تقديم مرتكبي الجرائم إلى منصّات العدالة.