"من الطرد إلى الحكم الذاتي، المسعى الصهيوني لوأد فلسطين"، جديد الباحث والمفكر الفلسطيني د. علي الجرباوي، وهو من إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2023، يقع الكتاب في 517 صفحة، ويتكون من تسعة فصول، وقائمة بالمصادر.
يتناول الكتاب موضوع الصراع العربي الصهيوني، مركزاً على محاولات الحركة الصهيونية الدؤوبة منذ قيامها وحتى الآن لطرد الفلسطينيين وإخراجهم من الجغرافيا وإقصائهم من الذاكرة ومن تاريخ المنطقة، كشرط أساسي لنجاح وديمومة المشروع الصهيوني الإمبريالي. ثم يستعرض مشاريع التسوية السياسية للصراع، والأفكار الإسرائيلية المطروحة في كيفية التعامل مع الفلسطينيين بعد الفشل في طردهم، مسلطاً الضوء على مشاريع "الحكم الذاتي" والتي بدأت مع بدء التسلل الصهيوني إلى البلاد، ثم تكثفت بعد النكسة، وصارت محور التفكير الإسرائيلي وسقفه الأعلى خاصة بعد "كامب ديفيد".
ويقوم الكتاب على فرضية مفادها أن الحركة الصهيونية حققت نجاحاً مهماً وحاسماً في حرب 1948، والتي ستُعرف بالنكبة، حيث احتلت ثلاثة أرباع فلسطين، وشردت أغلبية سكانها، ولكن هذا النجاح لم يكن كاملاً، وفي حرب 1967، والتي ستُعرف بالنكسة، حققت نجاحاً آخر، تمثل باستكمال احتلالها كامل أرض فلسطين، وأراضي عربية أخرى هي سيناء والجولان، لكن هذا النجاح (والذي جاء بصورة أسهل مما كانت تتخيل) أوقعها في مأزق تاريخي وإستراتيجي، شكّل وما زال يشكل تهديداً وجودياً للمشروع الصهيوني قد يؤدي إلى فشله وانهياره، حيث أنها أخفقت في طرد الفلسطينيين من أرضهم بعد أن تعلموا من درس النكبة. وهكذا بعد أن كانت إسرائيل مجبرة على التعامل مع من بقي من الفلسطينيين في أراضي الاحتلال الأول، والذين كانوا من وجهة نظرها مجرد أقلية سكانية، وجدت نفسها بعد الاحتلال الثاني مجبرة على التعامل مع أعداد إضافية من الفلسطينيين، وتلك الأعداد لم تعد مجرد أقلية، بعد أن نجحوا في التعبير عن أنفسهم كشعب يطالب بحقوقه السياسية والوطنية ويناضل بصلابة وقوة ضد الاحتلال.
ولأن فكرة طرد الفلسطينيين بالقوة لم تعد ممكنة لإسرائيل بعد النكسة، ولأنها ستواجه مأزق التعامل معهم، فلا هي قادرة على ضمّهم ولا على لفظهم ولا إنكار وجودهم، بدأت القيادات الإسرائيلية تبحث وتفكر في الأساليب الناجعة للخروج من هذه الورطة، على خلفية إدراكها أن قمع السكان الأصليين سيضر بصورة إسرائيل "الديمقراطية" و"المتحضرة" (وتلك الصورة كانت ضرورية لتسويق إسرائيل سياسياً وإعلامياً وتحسين صورتها أمام العالم)، وأنَّ استيعابهم سيعني تحويلهم إلى مواطنين إسرائيليين، وبالتالي إفراغ المشروع الصهيوني من مضامينه الدينية وأبعاده التاريخية، وضم الضفة سيحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، ما يعني أن إسرائيل ليست أرض الخلاص لليهود (وتلك كانت دعاية مهمة لجلب يهود العالم إلى الأرض الموعودة)، وأمام هذه المعضلة والتي ستُعرف بالقنبلة الديموغرافية تركز التفكير الصهيوني في البحث عن الخيارات الأفضل للحدّ من الوجود الفلسطيني، مع الاحتفاظ بالأرض، وبصورة لا يظهر فيها الاحتلال، ولا يضر بطبيعة إسرائيل كدولة يهودية عنصرية، ومن بين أبرز وأهم الأفكار التي تفتقت عنها العقلية الإسرائيلية فكرة الحكم الذاتي، ولكن دون سيادة، وقد استوحت هذه الفكرة من بعض أشكال الحكم التي استخدمتها الدول الاستعمارية في إدارة مستعمراتها في الحقبة الكولونيالية.
ولتوضيح فكرته عن مشاريع الصهيونية التي بدأت بضرورة طرد الفلسطينيين كلياً، إلى محاولة حكمهم من خلال "الحكم الذاتي"، وصولاً إلى اتفاق أوسلو، تسلسل الجرباوي في بحثه بحرفية ومهنية عبر تسعة فصول، يكمّل كل فصل الآخر، سأستعرض تالياً أهم ما جاء فيها، وبقدر ما أستطيع من إيجاز، وهذا لا يعني أن النقاط التي لم أذكرها غير مهمة، ولكن من الصعب التطرق لكل ما جاء في الكتاب على أهميته. مع التأكيد على أن هذا العرض المكثف لا يُغني عن قراءة الكتاب.
في الفصل الأول يعرّف مفهوم الحكم الذاتي من الناحية القانونية والسياسية، مستعرضاً نماذج حكم ذاتي تم تطبيقها في العديد من الدول حول العالم، مبيناً الفرق بين حقوق الأقلية، والحكم الذاتي، والحق بتقرير المصير، والفيدرالية. مشيراً إلى أن القانون الدولي يخلو من أي تعريف وتحديد لماهية الحكم الذاتي، وأن هناك نماذج ناجحة للحكم الذاتي، وأخرى فشلت فشلاً ذريعاً.
في الفصل الثاني يذكّر بالهدف المركزي للحركة الصهيونية، والذي تمثل في احتلال فلسطين وإجلاء أهلها، وباعتبار ذلك شرطاً تأسيسياً لا يمكن للمشروع الصهيوني أن ينجح ويستقر ويستمر دون تحقيقه. ثم يستعرض طبيعة المشروع الصهيوني الإجلائية والعنصرية والتوسعية، وارتباطه بالمركز الإمبريالي. ثم يتناول "النكبة" وتداعياتها على الفلسطينيين، وكيف فُرضت على من تبقى منهم قوانين الطوارئ والحكم العسكري، بإتباع إستراتيجية محو الأثر، وطمس مكونات أي هوية وطنية لهم، بعد تدمير كافة مؤسسات ومقومات وشواهد وجودهم كشعب أصلي، وللحيلولة دون تبلور هويتهم الوطنية من جديد.
الفصل الثالث بعنوان: "المشروع الصهيوني في مأزق 1967، الحكم الذاتي مخرجاً". وهنا يوضح الكاتب أن نتائج النكسة لم تأت لتكمل أهداف نتائج النكبة، بل لتقلبها.. والمفارقة أن عجز إسرائيل عن طرد الفلسطينيين كان بسبب السرعة الخاطفة التي انتهت بها الحرب، وكان عليها أن تبلع الطعم بحلوه ومره.
حمل الفصل الرابع عنوان "من القدس إلى كامب ديفيد، تأطير الحكم الذاتي"، وهنا يتناول الكاتب أهم شخصيتين في تلك المرحلة (السادات وبيغن)، وأثرهما على صياغة اتفاقية كامب ديفيد، والتي ستغير مجرى الصراع كلياً، وستجبره على اتخاذ مسارات جديدة ومختلفة كلياً.
يستعرض الكاتب تسلسل الأحداث بدءاً من زيارة السادات لإسرائيل وإلقائه كلمة في الكنيست، وصولاً إلى إبرام اتفاقات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، ويوضح الكاتب أن هذه الخطوة المنفردة لم تؤدِّ إلى تحقيق السلام، بل أدت إلى تثبيت شرعية إسرائيل، وإخراج مصر من دائرة الصراع، وفقدان العرب أهم وأقوى دولة عربية، وتفكيك منظومة التضامن العربي والعمل العربي المشترك، إضافة إلى تمكين إسرائيل من إحكام سيطرتها على الأراضي المحتلة وتأبيد مستقبل القضية الفلسطينية في سجن الحكم الذاتي.