الاحتفال بمناسبة مرور 59 عاماً على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية جرى على خلفية عقد «مؤتمر العودة» بمدينة مالمو في السويد، السبت الماضي، والخلاف الحاد حول هذا المؤتمر الذي رأت فيه فصائل منظمة التحرير محاولة لشق الصف الفلسطيني وإنشاء منظمة تحرير بديلة. وقد اتهمت حركة «حماس» بالإعداد لهذا المؤتمر وتنظيمه، في محاولة لخلق إطار قيادي بديل لمنظمة التحرير المعترف بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني عربياً ودولياً، وقبل كل شيء هي تحظى بشرعيتها من الشعب الفلسطيني تاريخياً.
وبصرف النظر عن الموقف من «مؤتمر العودة»، دعونا نتفحص وضعنا بصورة عامة، ووضع منظمة التحرير بصورة خاصة. فأولاً وقبل كل شيء لا يمكن أن يدعي أحد أننا موحدون، وأن لدينا قيادة واحدة ومؤسسة واحدة تتخذ القرارات في كل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني. وهذا ليس من باب التشكيك في شرعية المنظمة ووحدانية تمثيلها لشعبنا، بل فقط لرؤية الواقع المأساوي الذي نعيش. فلدينا سلطتان واحدة في رام الله وواحدة في غزة. وحتى لو كانت السلطة القائمة في رام الله هي السلطة الشرعية المعترف بها، تتحكم «حماس» بقطاع غزة بشكل كامل وهي بمثابة سلطة أمر واقع لا يمكن تجاهلها. بل إن أطرافاً إقليمية عديدة تحاور «حماس» وتتفق معها على أمور تتعلق بشؤون القطاع، في المعارك وفي وقف إطلاق النار، بما في ذلك شروط حياة المواطنين في القطاع، وتشمل حركة إدخال البضائع ونوعيتها ودخول العمال والإعمار والمساعدات والكثير من التفاصيل المتعلقة بما تسميه إسرائيل «التسهيلات».
ويشكل استمرار حكم «حماس» لمدة ستة عشر عاماً، مع ما يعانيه قطاع غزة من حصار وظلم وواقع مغاير لواقع المواطنين في الضفة الغربية، على الرغم من أن الأخيرة تخضع لسياسة عدوانية همجية لسنوات طويلة، تكريساً لكيانَين فلسطينيَّين مختلفَين. وللأسف هذا التمييز بين الضفة والقطاع لا تمارسه إسرائيل فحسب، بل تقوم به السلطات الفلسطينية على مستويات عدة. وبقاء «حماس» و»الجهاد الإسلامي» خارج منظمة التحرير يساهم في تشتيت القوى الفلسطينية وتعزيز حالة الانقسام.
في الواقع فشلت الحركة الوطنية الفلسطينية بشقَّيها منظمة التحرير والحركات الإسلامية في التوصل لإطار وحدوي مشترك، يقود في نهاية المطاف إلى ضم كل القوى تحت إطار منظمة التحرير وتوحيد المؤسسات الفلسطينية كافة بما فيها مؤسسات السلطة المختلفة. والسبب في هذا الفشل هو التوزيع الفئوي لمراكز القوى وتولّد بؤر فاسدة في شقَّي الوطن لا ترى في الوحدة مصلحة لها. وتعارض بشدة إجراء الانتخابات العامة باعتبارها المدخل الصحيح لإعادة الوحدة وأيضاً لتشكيل منظمة التحرير على أسس جديدة قائمة على موازين القوى الحقيقية داخل الشارع الفلسطيني، وليس على اعتبارات تاريخية أكل عليها الدهر وشرب. وحتى لو افترضنا أن الانتخابات غير ممكنة، وهذا طبعاً ليس دقيقاً، فهناك وسائل أخرى لتركيب مجلس وطني بالتوافق. وتشكيل حكومة وحدة وطنية خاضعة لمؤسسات منظمة التحرير باعتبارها المرجعية الشرعية.
من يرفض الانتخابات يرفض فكرة الوحدة، ويرفض الإصلاح، ويرفض القضاء على الفساد ومحاسبة الفاسدين. وفي النهاية يريد إبقاء الوضع على ماهو عليه. وهذا وضع جيد بل مثالي لإسرائيل للمضي قدماً في مشروعها الاستيطاني الذي يراد منه القضاء على فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة منذ العام 1967. على الرغم من أن الجميع يتشدقون بالوحدة ويتحدثون عن الانتخابات وعن ضرورة انضمام الجميع لمنظمة التحرير.
«مؤتمر العودة» في مدينة مالمو السويدية انعكاس لواقع الانقسام وهو أيضاً محاولة لملء الفراغ الذي تركته المنظمة عبر سنوات طويلة من الترهل والضعف وحلول السلطة الوطنية مكانها، وتحويلها إلى مجرد هياكل ومسميات غير فاعلة. والحقيقة أن السياسة لا تقبل الفراغ وهذا الفراغ قائم منذ فترة. حركة «فتح» باعتبارها الحركة الأكبر في منظمة التحرير، ومهيمنة عليها وعلى السلطة، تتحمل مسؤولية كبيرة في إضعاف المنظمة وتغييب دورها، والسماح بوجود فراغ تحاول بعض الجهات سده والاستفادة منه.
الدعوات لانضمام كل فصائل لمنظمة التحرير، وهذه موجهة بالأساس لحركتَي «حماس» و»الجهاد الإسلامي»، تبدو فارغة من أي مضمون، وهي مجرد ضريبة كلامية لمحاولة تدارك الموقف في أعقاب عقد مؤتمر مالمو. والأصح أن تتم الدعوة لانعقاد الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير الذي يضم كافة الأمناء العامين الفصائل وشخصيات مستقلة، والبدء بإجراءات لتفعيل المنظمة، والبحث الجدي في تشكيل مجلس وطني جديد ومجلس مركزي ولجنة تنفيذية، إما بالانتخابات العامة أو بالتوافق على نسب تمثيلية معيّنة. وإذا كان العدوان الإسرائيلي والحرب الشعواء التي تشنها إسرائيل على فكرة الكيان الفلسطيني، وعلى الرواية التاريخية وكافة حقوق شعبنا المشروعة، لا تحركنا نحو الوحدة لدواعي الضرورة الوطنية القصوى، فلن تقدر تداعيات «مؤتمر العودة» أن تفعل ذلك. وسرعان ما نعود للروتين وترضى الأطراف بحصّتها من الكعكة الهزيلة التي ألقاها علينا الاحتلال.